التكفيريون الدواعش (أرشيف)
التكفيريون الدواعش (أرشيف)
السبت 4 مايو 2019 / 19:36

التخوين أخو التكفير

عندما تنظر في قصة فرج فودة، ذلك الكاتب المصري الشجاع، ستجد أن هناك شبهاً كبيراً بعالم محاكم التفتيش، ففرج فودة رحمه الله كان العدو الأول لمشروع الإسلام السياسي، وكان الفاضح للحجج الباطلة التي يتذرعون بها دعاية لمشروعهم

كان المشهد الثقافي العربي فيما مضى يعاني أشد المعاناة من مشكلة التكفير، معاناة لم نكن نراها في المشاهد الثقافية غير العربية في الشرق والغرب، وكان هذا يُحزن كثرة من مثقفينا فيكررون السؤال: لماذا حالنا هكذا؟ لماذا نحن فقط من كانوا يتعرضون لهذا الوضع الغريب الخارج عن التاريخ، بحيث يُكفّر المفكر بسبب عقله الذي أعطاه الله له وخلقه فيه، حتى وإن كان نفسه ذا روح دينية؟!

عندما كانت الصحافة الغربية والباحثون المستقلون يسألوننا عن تفسير أو مرادف لما نقصده بأزمة التكفير، كنا نشبهها بمحاكم التفتيش الإيطالية والإسبانية التي وقعت في أوربا القرون الوسطى ونتج عنها إحراق العالِم الفيلسوف جوردانو برونو في سنة 1600 وإذلال "آينشتاين" ذلك الزمان غاليليو غاليلي، عندما أجبروه وهو ابن السبعين على أن يُكذّب نفسه ويعتذر لرجال الدين، رغم أن غاليلي لم يقل شيئاً يتعارض مع أي دين، لكنه درس أرسطو وأدرك أن "فلسفة الطبيعة" التي شيدها أرسطو، كانت كلها كلام فارغ قائم على التأملات والحجج المنطقية، ولم يقم على التجربة والرصدات الفلكية والدراسات الطبيعية، فقعد له وهدم فلسفته حجراً، حجراً، عن قصد وترصد، ليشيد بدلاً عنها: قواعد العلم التجريبي الحديث. المشكلة التي واجهها غاليليو هي أن فلسفة الطبيعة الأرسطية قد أدخلتها الكنيسة في مناهجها التعليمية ومن يردّ عليها أو ينتقدها كان كمن يردّ على الله.

عندما تنظر في قصة فرج فودة، ذلك الكاتب المصري الشجاع، ستجد أن هناك شبهاً كبيراً بعالم محاكم التفتيش، ففرج فودة رحمه الله كان العدو الأول لمشروع الإسلام السياسي، وكان الفاضح للحجج الباطلة التي يتذرعون بها دعاية لمشروعهم. ذلك المشروع الذي طالما سعى في تنكر ومكر، منذ زمن وعقود طويلة لكي يُشعل الأرض العربية حروباً دموية من أجل عودة الخلافة. كل ما كتبوه عن الحاكمية، كل ما كتبوه عن كفر الحكومات العربية، كل هذا لم يكن سوى حيلة ووسيلة لضمان وصولهم هم إلى السلطة.

رغم أن السيد فودة كان مسلماً يحضر صلاة الجمعة في المسجد، بدلالة مقالاته التي يذكر فيها حضوره لتلك الخطب وانتقاده الأسبوعي المتكرر لما كان يسمعه في خطب الجمعة من بث مقولات التكفير والدعوة للثورة، إلا أن هذه الصلوات لم تشفع له، فحاربته "الجماعة المؤمنة" التي لا ترى مؤمناً غيرها، وشنت عليه حملة تشويه ورفعت عليه دعاوى قضائية مضحكة، مثل تلك الدعوى القضائية بأن الأستاذ فرج فودة كان يدير حفلات للجنس الجماعي! رجل كاتب ومفكر وصحفي وأب لعائلة وفي حالة حرب مع "الجماعة المؤمنة" وفوق كل ذلك يملك الوقت لإدارة حفلات الجنس الجماعي والصلاة في المساجد في نفس الوقت! لا تعجب أيها القارئ، ففي تلك الفترة لم يكن هناك حد لجنون وأكاذيب ودجل "الجماعة المؤمنة" ولم يكن هناك رادع لإجرامها، في كثير من دول العالم العربي.

عندما خسروا هذه القضية السخيفة المضحكة أمام القضاء المصري المشهود لها بالاستقلال والنزاهة، عندها لم يُطيقوا صبراً ولم يستطيعوا أن يتجرعوا مرارة الهزيمة أكثر، فأرسل له كهنة التكفير رجلاً جاهلاً قد امتلأت جمجمته حمقاً هو به مغتبط، فأطلق عليه النار من رشّاش أرداه قتيلاً في الشارع على مرأى ومسمع ابنه الصغير الذي أصيب هو الآخر في الحادث إصابات طفيفة، لكنه نجا من الموت. كان هذا في 8 يونيو 1992. وعندما سئل هذا المجرم الجاهل الأحمق عن سبب قتله لفرج فودة أجاب بأن كتبه تحتوي على الكفر الصريح، ولما سئل: هل قرأتَ من كتبه شيئاً؟ أجاب بأنه أميّ لا يقرأ ولا يكتب!.
أقولها بملء فمي "الحمد لله على نعمة اسمها، الشيخ محمد بن زايد والأمير محمد بن سلمان" فهما البطلان اللذان وجّها الصفعات تلو الصفعات لوجه التكفير القبيح، وهما اللذان تصديا بكل قوة ووضوح وبكل شرف المواجهة لتيار استعادة الخلافة وإخضاع العالم العربي لمطامع الخلافة العثمانية المتمثلة في مشروع أردوغان، ولمطامح الإمبراطورية الفارسية المتمثلة في مشروع ملالي إيران.

لكن واجبنا، مع هذا، يُحتم علينا أن ننبه على تطرف نشأ في ناحية أخرى، فالاعتدال منطقة بلا خطوط ولا رسوم، لكن يجب أن نتحسسها كتحسس أبناء "يعقوب" لآثار "يوسف"، تحسس ليس بحسي تماماً، وإنما عقلي وروحي وأخلاقي، أيضاً. لقد نشأ بيننا في هذه الأيام تيار أسماه الناس تيار "الوطنجية" أقصد التخوينيين الذين يسمون أنفسهم بالوطنيين والوطن منهم بريء. هذا التيار لديه غلو لا يختلف عن غلو التكفيريين، ولا بد من تسليط الأضواء على الكارثة التي أتوا بها وتمزّق المجتمع بسببهم.

مرت بي عشرون عاماً، كنت فيها ممتلأ بالحماس، أكتب وأحارب بالقلم والموقف، كما حارب المرحوم فرج فودة، وكنا نتعرض لأشد الأذى من التيار الإخواني المهيمن أيامها على التعليم والمساجد، وقد سعوا جاهدين بكل قوتهم لإلحاق صنوف من الضرر بي، وأقلّ ما فعلوه هو محاولة فصلي من وظيفتي في وزارة التعليم، مكررين هذه المحاولات عبر أكثر من عقد من الزمان، وفي مرات عديدة كانوا يكتفون بالتهديد بالفصل والمضايقات في العمل، وهناك قصص تدل على حقد أعمى مثل تهشيم زجاج سيارتي ليلاً في حادثة مشهودة رصدتها صحيفة الرياض السعودية، وهناك عشرات الأحداث المشابهة، ولو جمعت قصص الأذى تلك، لخرجتُ بكتاب أو كتابين متوسطي الحجم تؤرخ لفترة قاسية كنت أظنها لا تنتهي. أقولها بصراحة، لم أكن أتخيل أبداً، أن التغيير والحرية سيحدثان في حياتي.

أيامها لم يكن لهؤلاء الوطنجية أدنى ذكر ولا صوت ولا قيمة، وما كانوا يقدِرون ولا يملكون شجاعة أن يرفعوا رؤوسهم في مواجهة التيار الإخواني المهيمن، بل كانوا يداهنون ويجاملون في العلن، ولا ينتقدون الإخوانية والسرورية إلا في المجالس الخاصة. اليوم عندما جاء الله بنعمة اسمها "محمد بن سلمان" امتلأت قلوب هؤلاء بالشجاعة الفجائية المتأخرة، لأن الأمير الشجاع قد أعلن أن نهاية هذه التيارات قد حانت، وأننا لن نضيع ثلاثين سنة أخرى خاضعين لفكر الصحوة، فانطلق الوطنجية يطلقون ألسنتهم في الناس، ويتهمون أفراداً بأعيانهم في وطنيتهم، رغم أنه ليس هناك شيء أقسى من أن تقول لرجل أو لامرأة "أنت خائن لوطنك". هذا شأن خطير، فإن غلبتك رغبة التخوين، كما كانت رغبة التكفير تغلب إخوانك، فلا بد من تأكدُك مِن أنك تملك الأدلة الكافية على الإدانة، أو استح واختر السلامة والسكوت.

ما أريد قوله هنا، هو أن المبدأ الأخلاقي واحد، والقيم لا تتجزأ، التخويني أخو التكفيري، أنت أيها التخويني لا تختلف عن أخيك التكفيري، وكلاكما خرج من بيئة واحدة أطعمتكما من لبن واحد. إنها نبتة واحدة بفروع مختلفة وقد حان الوقت لاقتلاع هذه الجرثومة الضارة بأكملها من الأرض، سواء كانت تكفيرية أو تخوينية، في عهد جديد نحن في قمة الفرح والتفاؤل به. لدينا أجهزة أمنية قوية، تستطيع أن تتابع وتراقب كل خائن وتسطيع أن تكتشف بسهولة من وهب ولاءه السياسي لمحور تركيا/قطر، أو لإيران، وبالتالي هذا الوطنجي ليس له أدنى دور أو قيمة حقيقية في كشف الجواسيس أو الخونة، إنه شخص عادي لا يملك الأدوات ولا التقنية التي تتيح له معرفة الخونة من الوطنيين، ما هو إلا شخص مؤذ ليس له فائدة يقوم بها غير تفريق المجتمع وتمزيق وحدته، في وقت نحن في أمس الحاجة لجمع الكلمة والوحدة.