ركام مبنى في غزة بعد القصف الإسرائيلي (أرشيف)
ركام مبنى في غزة بعد القصف الإسرائيلي (أرشيف)
الأحد 5 مايو 2019 / 19:58

أبراج غزة وجباية الثمن...!

دمر الإسرائيليون سبع بنايات سكنية خلال الساعات الثماني الأولى لبدء الهجمات الجوية الأخيرة على غزة. وهذه بنايات مرتفعة، ومتعددة الطبقات، يطلق عليها الناس هناك تسمية الأبراج.

في اعتقاد حماس أن عدداً من رجال الأعمال والتجار والمستثمرين من أصحاب الأبراج هم بمثابة رئة مالية لحماس، وبالتالي فإن تعريض مصالح هؤلاء، كشريحة اجتماعية واقتصادية نافذة، للخطر يمكن أن يحدث شرخاً في علاقتهم بحماس

وفي غزة الكثير منها، وهي مملوكة للخواص، وأغلبهم من كبار رجال الأعمال، والتجار والمستثمرين. وانتشرت ظاهرة بناء الأبراج، في غزة، بشكل ملحوظ منذ أواسط التسعينيات، بعد اتفاقات أوسلو، وقيام السلطة الفلسطينية، وتُستخدم في الغالب للسكن، ومكاتب لمنظمات غير حكومية، ومؤسسات إعلامية، وتجارية.

وربما لن يلفت تدمير سبع بنايات في ثماني ساعات لا غير، انتباه أحد، إلا بوصفه جانباً من سياسة العقاب الجماعي المألوفة، وتجليات العدوانية الإسرائيلية. وربما لن يتذكر أحد، أيضاً، تهديد الإسرائيليين في الأيام الأخيرة لحربهم على غزة في 2014، والتي استمرت خمسين يوماً، بتدمير الأبراج السكنية في غزة، وقد قيل، في حينها، إن التهديد بعمل كهذا حقق الغرض منه.

ومع ذلك، وبقدر ما يتعلق الأمر بالأبراج السكنية، ثمة صلة بين التهديد بتدميرها قبل خمس سنوات، والشروع في تدميرها، فعلاً، في المجابهة الأخيرة التي لم تتوقف حتى الآن. وهذه الصلة لن تتضح بصورة كافية بعيداً عن أنها نوعاً من التفاوض بالنيران، وفي معزل عن الإطار العام لنظرية الردع الإسرائيلية.

ولا ضرورة، في معرض الكلام عن التفاوض بالنيران، التذكير بحقائق من نوع أن إسرائيل لا تريد الإطاحة بحكم حماس، ولكن تريد ترويضها، وإرغامها على القبول بقواعد ثابتة للردع، والضغط في موضوع استعادة أسرى وجثث جنود إسرائيليين قتلوا في مجابهات سابقة، وإبقاء الصياغة النهائية لكل تفاهمات محتملة بين الجانبين، في يد الإسرائيليين أنفسهم.

في سياق كهذا يأتي تدمير الأبراج جزءاً من عملية الترويض. ومع ذلك، يمكن التساؤل، في هذا الصدد، ولكن لماذا الأبراج، بالذات؟.

يدّمر الإسرائيليون الأبراج، أو يهددون بتدميرها، لأنها تشكل، في نظرهم جزءاً من البطن الرخوة لحماس، في ظل ضمور مواردها المالية، وتدني الأوضاع المعيشية إلى حد كارثي في غزة.

ففي اعتقادهم أن عدداً من رجال الأعمال والتجار والمستثمرين من أصحاب الأبراج هم بمثابة رئة مالية لحماس، وبالتالي فإن تعريض مصالح هؤلاء، كشريحة اجتماعية واقتصادية نافذة، للخطر يمكن أن يحدث شرخاً في علاقتهم بحماس، ويُنذر بتعميق ورطتها المالية والاقتصادية.

واللافت أن تدمير الأبراج يترافق، في هذه الجولة، أيضاً، مع قصف بيوت سكنية لقيادات متوسطة في الهيكلية التنظيمية والعسكرية لحماس والجهاد. وفي هذا ما ينطوي على أكثر من تهديد ورسالة ضمنية من بينها أن التصعيد يمكن أن يشمل مراتب أعلى، إذا استدعى الأمر، في مرحلة لاحقة.

ويمثل هذا كله مكوناً كلاسيكياً في نظرية الردع الإسرائيلية، التي تبلورت في خمسينيات القرن الماضي، ووضع قواعدها الأساسية موشي دايان، الذي كان رئيساً للأركان في ذلك الوقت.

ففي كتاب صدر في الثمانينيات، وأعيد نشره في طبعة جديدة قبل سنوات قليلة، روت ياعيل دايان جانباً من حوارات وعبارات سمعتها من أبيها بعد مجزرة قبية في الضفة الغربية في 1953، التي ذهب ضحيتها قرابة سبعين مدنياً فلسطينياً في عملية انتقامية قادها أرييل شارون.

قال دايان: "على إسرائيل أن تجبي ثمناً يصعب على العرب دفعه، إذا عرفوا أن قتل يهودي في كيبوتس روحاما يهدد حياة السكان في غزة".

والواقع أن هذه القاعدة لم تتغير كثيراً منذ ذلك الحين. وأبرز معالمها انفصال الردع عن تداعياته الأخلاقية، واختزال دلالته السياسية في احتكار الإسرائيليين للحق في إملاء ما يُعرفونه كضمانات أمنية، حتى وإن كانت غطاء للتوّسع والعدوان، استناداً إلى فرضية أن العرب لن يفهموا غير لغة القوة. وهي فرضية قديمة، أيضاً، وتاريخها يعود إلى بداية مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

ومن الكارثي، فعلاً، أن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري، الذي خلقته حماس في قطاع غزة، منذ استيلائها عليه، جعل من غزة، في نظر الإسرائيليين، ميداناً مثالياً لممارسة نظرية الردع، والتفنن في عملية جباية الثمن، بلا حسيب ولا رقيب، ولا ثمن يُعتد به يدفعونه، أو عقاب ينالهم. واليوم وضعوا الأبراج على رأس القائمة.