الشاعرة الإنجليزية جو شابكوت (أرشيف)
الشاعرة الإنجليزية جو شابكوت (أرشيف)
الأربعاء 8 مايو 2019 / 21:05

شاعرةُ الأشياء البسيطة

"أُحسُّ بأوراقي الخارجيةِ تفقدُ مقاومتَها/ يتسرَّبُ الأكسجينُ القاتلُ إلى عٌمقي/ فيما يتسلَّلُ الماءُ بعيدًا/ والخَدَرْ

هل تخيلت نفسك ثمرة ثمرةَ طماطم، أو عنزة، أو فُقاعةَ صابون، أو صورةً ورقية تحت لوحٍ بلوري فوق سطح مكتبِ كاهنٍ، أو حتى قارورة تحوي عنصراً كيميائياً فوق رفّ مختبر؟ الشاعرُ يفعل ذلك وأكثر. الشاعرُ بوسعه أن يكون أي شيء يشاء، وقتما شاء. وربما لهذا السبب قال جورج برنارد شو: "أنت ترى الأشياءَ وتسألُ: لمَ؟، بينما أنا أحلمُ بأشياءَ لم تكن أبداً، وأقول: ولم لا؟"

"جو شابكوت" شاعرة إنجليزية مليحة الوجه دائمة الابتسام، تحتفي بالموجودات غير العاقلة وغير الحية إلى درجة أن تبثها من روحها، فتحيا تلك الجوامدُ وتتحرك وتتكلم وتحب وتغارُ وتحزنُ وتفرح. تتقمص مرةً كيانَ ثمرةٍ تقبع في ركن الثلاجة تعاني الصقيعَ وتنتظر بلهفة أن يفتح حبيبُها "الإنسان" الدرج السفلي حيث ترتعد برداً، ليختارها، دون كل الثمرات الأخر، ويقضمها فتتدفأ بلعابه وتذوب داخل عصاراته الهاضمة. تتحلل داخل جسده، لكنها، فيما تموت كثمرة، تتعلم صيغةً جديدة للحياة.

"أُحسُّ بأوراقي الخارجيةِ تفقدُ مقاومتها/ يتسربُ الأكسجينُ القاتل إلى عٌمقي/ فيما يتسللُ الماءُ بعيدًا/ والخدر./ الخدرُ يزحفُ شيئًا فشيئاً/ نحو قلبي/ هنا... في قاعِ الثلاجةِ/ حيثُ الصمتْ./ فقط أنا/ مع خَسَّةٍ مُتغضّنة ونِصْفِ بَصَلةٍ/ ينفتحُ بابُ الثلاجةِ مراتٍ عديدةً خلال اليوم/ لكنَّه/ أبدًا لا يَفتحُ دُرْجَ الخُضَرِ/ هنا/ حيث أقبعُ في ركني/ منكمشةً على عزلتي/....../ لكنْ/ سرعان ما أشعرُ بالدِّفءِ من جديد/ حينَ أفكرُّ فيه/ أذوبُ مع لُعابِه/أمرُّ على حلقِه/ثمَّ تهضِمُي خلاياه/حينئذٍ/ أتعلَّمُ خلالَ ذوباني/صيغةً جديدةً للحياة/ أتغضَّنُ/ أذبلُ و... أموتُ/ ثمَّ/ أتفتحُ من جديدٍ على الحُّبِّ".

ومرةً جعلت من نفسها عنزةً ترعى في مرج وتلتهم كلّ ما يقابلها من مبانٍ وجسور وعشب وبشر.

"الغسق/ وطريق صحراوي/ وفجأةً/ غدوت عَنزةً./ للدقة/ استغرقَ الأمرُ دقيقتين/ حتى انبثقَ القرنانِ من جمجمتي/ وبدأ عمودي الِفقَري يتمردُ/ حتى يستقرَ على نحوٍ أفقي/ ثم التصقت أصابعي هكذا/ واتخذت أظافري طريقَها نحوَ التطورِ/ لتغدو حوافرَ".

ومرةً تتخيل نفسها قطرةَ ماء تسقط فوق صفحة بحيرة فتجتهدُ أن تحافظ على توترها السطحي المحيط بجسدها المائي لكيلا تذوب وسط الماء من حولها. ومرةً هي راعية أغنام ترعى قطيعها الذي سيتسلل إلى بيت حبيبها ثم يدخل عليه الحمام فيما هو مستلق في المغطس. فيشرع القطيع في قضم أظفار قدميه.

ومرة تهبُ قواريرَ متراصةً فوق رف أحد المختبرات روحاً فتجعلها تتأمل مشهد حب بين رجل وامرأة يعملان في المختبر كمهندسي كيمياء. يفتنها المشهد فتغمز لهما متواطئةً مع قصة الحب الوليدة.

"عند الفجر/ غمزت صفوفُ القوارير/للزوجين المنهكين/ الواقفين جوار صوان الدخان".
  
وفضلا عن التيمة الفنية التي تنهجها شابكوت من خلال "أنسنة" الموجودات والجماد والحيوانات ما يجعل عالمها ثرياً واسعاً غير منغلق على البشر وحسب، إلا أن وراء هذه التيمة دلالات فلسفية أعمقَ مع طاقة الشعر الخبيئة داخل هذا اللون من الشعرية.

تذهبُ النظريات الفلسفية، بل والفيزيقية أيضاً، إلى أن كلّ شيء في هذا العالم يحمل طاقةً كامنة Potential Energy. وهي طاقة مخبئة داخل جزيئات المادة بالقوة وليس بالفعل، حسب التعبير الفلسفي.

وذهبت بعض شطحات الخيال الإبداعي والفلسفي إلى أن تلك الطاقة بوسعها أن تجعل الجماد يشعر ويتألم، ويحب، بل ويغار. ولعلنا نذكر المسلسل الأمريكي الشهير "العربة الطائشة" حيث السيارة الصغيرة العتيقة "هيربي" ماركة فولكس فاغن تغار على مالكها حين فكر في أن يستبدلها بسيارةً جديدة حمراء. فراحت هيربي تنتقم من الغريمة الفاتنة حتى حطمتها. وفضلا عن الخيال الشعري الجامح في قصائد شابكوت، بوسعنا أن نضع أيدينا على دلالات سوسيو-سياسية حين نتساءل هل قطرة الماء التي تقاوم الذوبان في الماء لها علاقة ما بالعولمة، لو اعتمدنا الرمزية في التأويل؟ وما هي طبيعة هذه العنزة التي تلتهم الكون والبشر؟ هل هي القوة الأولى المهيمنة على العالم؟ أم غول الصناعة الذي طغى على روح الوجود؟ أم هي مجرد عنزة مشاغبة ترعى في براءة وتلهو بما يصادفها؟
***

جو شابكوت من مواليد لندن في 1953، حاصلة على درجة الزمالة في جامعتي كامبردج وهارفارد، وفازت بعدة جوائز شعرية رفيعة منها جائزة الكومونولث عن ديوانها الأول "طلاء رضيع" في 1991 وجائزة الشعر الدولية عن ديوانها الثاني "العبارة" في نفس العام وجائزة الشعر البريطاني.

احتفى بها النقاد الغربيون لأنها تجمع بين الفانتازي والواقعي على نحو بارع مع مقدرة على خلق عالم فوضوي يحرض قارئها على رؤية الأشياء من حوله على نحو مختلف. قُدمت للعربية لأول مرة في أنطولوجيا "مشجوج بفأس"، وأنطولوجيا "أبناء الشمس الخامسة"، قصائد من الشعر البريطاني والأمريكي المعاصر، ترجمة فاطمة ناعوت، وصدر الكتابان عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر عامي: 2004، 2009 بالتتابع.