الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو  (أرشيف)
الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (أرشيف)
الأربعاء 8 مايو 2019 / 20:58

جحيم ما بعد الحداثة

يرى الناقد الثاقب، واللامع في آن، تيري إيغلتون، أن فلاسفة مثل دريدا ودولوز وفوكو، لا يفكرون إلا في عالَم مُؤلّف كلياً من اختلافات، وأننا بحاجة مُلحة، ودائمة، إلى تشكيل هويات، لنتدبر أمورنا، ويغفلون أن التشكيل الدائم للهوية، خراب مفتوح على خراب. والنتيجة أنه لن يوجد أحد، في عالَم الاختلافات الخالصة، يكون قادراً على قول أي شيء مفهوم، فلن يكون هناك شِعر، أو لافتات طريق، أو رواتب شهرية، وهذا قد يُسعد المُديرين التنفيذيين، أو أرشيف يحفظ السجلات.

تشبه حركة جريان المعاني على السطوح، في ما بعد الحداثة، حركة رمي حجر، بشكل أفقي، على سطح بحيرة

المُفَارقَة المُدهشة، أن ميشيل فوكو ذاته، لا يُقدّر جحيم الاختلافات الخالصة، فعلى سبيل المثال، ما كانت لأعمال فوكو الشهيرة، "تاريخ الجنون"، و"المُراقَبَة والمُعاقبة"، و"حفريات المعرفة"، فرصة للظهور لولا وجود الأرشيف، ووجود سجلاته الدقيقة المنضبطة، في المستشفيات، والسجون، والإصلاحيات، وكلها من مؤسسات الدولة.

كل المختلفين عند فوكو يريدون المتعة الخالصة، وكأنهم ببساطة يضعون القوانين جانباً، فرغبتهم البدائية في المتعة، تعارض سلوكيات المجتمع، وهي سلوكيات جامدة، قاسية في تحليل فوكو النهائي، وكأن الجسد من الممكن أن يكون مُتفرغاً لمتعته فقط، وفي نفس الوقت، يطلب من الآخرين ألا يعاملوا هذا الجموح في طلب المتعة، على أنه طلب سطحي وتافه.

استلهم دولوز من فقرات أدبية لنيتشه، توحي بأن السطح أعمق من العمق ذاته، أو أن الأعماق لا توجد، وأن السطوح هي التي توجد فقط. كتب دولوز مع غاتاري كتاب "ألف سطح وسطح"، وكأنه أهدى للمراهق المختلف، الما بعد حداثي، سلاحاً مزدوجاً، فالتفاهة السطحية الخالصة، ليست إدانةً، بل هي التي تكشف زيف الأعماق.

تشبه حركة جريان المعاني على السطوح، في ما بعد الحداثة، حركة رمي حجر، بشكل أفقي، على سطح بحيرة، فيصنع الحجر تماساً خفيفاً، أو كشطاً طائراً، في نقطتين متتابعتين، أو ثلاث، على سطح البحيرة. طفو وغرق. انتشال المعنى، وانحطاطه، على ألف سطح وسطح.

يدخل أيضاً الذكاء الاصطناعي على خط ما بعد الحداثة، فالكثير من أفلام هوليوود تكون مواضيعها عن ذكاء إنسان الروبوت، والتحدي يكون في كيف نصل بمشاعر إنسان الروبوت، المختلف، إلى تعقيد مشاعر الإنسان الطبيعي.

في أحد الأفلام تسأل البطلة المُصنعَة: لماذا حُذف من برنامج تخليقها، الدموع. كما يحاول إنسان الروبوت في فيلم آخر، إلى تعديل تصميم خلاياه الصناعية، بحيث تتعرض في الزمن، للعطب والفناء، مثل الإنسان الطبيعي.

هناك إذن عقدة نقص في فكر ما بعد الحداثة، فالسطوح تحسد الأعماق، والذكاء الاصطناعي يشعر بالدونية أمام الذكاء الطبيعي، والأقلية تريد احتلال الأغلبية، والهامش يريد الصدارة على المتن، والفوضويون يدّعون أنهم يملكون أنظمةً بديلًة، شرط أن لا يمنعهم أحد من هدم كل شيء في البداية، فالمنع يثير حفيظة الفوضوي الما بعد حداثي، ويحوله إلى مجرم جنائي، أو إلى إرهابي.

الإرهابيون أقلية في رأي الما بعد حداثيين، ولهذا علينا أن نسمعهم، فهم يقدمون طريقة أخرى للعيش، أكثر إثارة من طريقة عيش الأغلبية، والحرية اللامحدودة التي يطلبونها، لا تهتز بتفجيراتهم التي تطال الأغلبية الخاملة التقليدية، فالحرية غاية قصوى، والطريق إليها محفوف بالمخاطر، وإذا كانت الغاية عظيمة ونبيلة، فعلينا أن نتحمل فاتورة تحقيقها.

الإرهابيون روحانيون كما قال ميشيل فوكو عن ثوار الملالي الإيرانيين 1979.

نقطة أخيرة عن الما بعد حداثيين، وهي أنهم يتعجلون الوصول إلى الكلاسيكية، فعلى سبيل المثال، قناة TCM، المعروفة بعروض الأفلام الكلاسيكية، أدخلت فجأة زمرة من الأفلام الحديثة مثل سلسلة أفلام "صرخة"، التي أُنتجت في تسعينيات القرن العشرين، في برامج عروضها، جنباً إلى جنب مع أسماء أفلام مهيبة في كلاسيكيتها مثل "ذهب مع الريح" 1939، و"كازبلانكا" 1942، و"لورانس العرب" 1962.

إلى جانب تعجل ما بعد الحداثة، للوصول إلى الكلاسيكية، يقترح تيري إيغلتون، خللاً آخر، وهو أن ما بعد الحداثة، ضعيفة الذاكرة، فربما سلسلة أفلام "صرخة"، هي أبعد نقطة تستطيع فيها، ما بعد الحداثة، الرجوع إلى الوراء. إليكم أيها السادة المُفَارَقَة الكبرى لما بعد الحداثة، بينما هي تحتقر التاريخ، تطمع بنفاد صبر، في وصفها من قبل الآخرين، بالتاريخية. إنها تحقق المثل العامي المصري: "عيني فيه وأقول إِخيِّ".