مهاجرون يحاولون النجاة من الغرق قبالة سواحل ليبيا.(أرشيف)
مهاجرون يحاولون النجاة من الغرق قبالة سواحل ليبيا.(أرشيف)
الإثنين 13 مايو 2019 / 22:05

كوميديا سوداء

لست سوداوياً ولا أقصد إشاعة اليأس والإحباط، لكنني لست حالماً ولا واهماً ولا أطيش على شبر ماء لأصدق ما تقوله الصحف والقنوات الفضائية عن انجازاتنا العظيمة في العصر العربي الزاهر

في الأرض التي نراها وطناً عربياً نعيش حالة من الانفصام الكامل بين واقعنا الحقيقي وخطابنا السياسي والإعلامي.
نغني للوحدة ونرفع شعارها ونحن منقسمون حد التشظي، ولا نستطيع الاتفاق حتى على موعد بدء رمضان.
نفاخر بأمجاد التاريخ ونجترها بالكلام، ونعجز عن صناعة واقع يليق بهذا المجد العربي الغابر.
نؤكد حقنا في صدارة الأمم ونعيش كأمة وحيدة بلا مشروع في منطقة تتصارع فيها وعليها مشاريع الأمم الأخرى.
نتمسك بعدائنا العلني لإسرائيل ويصدر بعض شيوخنا فتاوى بتحريم شتمها واعتباره كفراً.
نعتز بانتمائنا لبلادنا وعشقنا لترابها ونهرب منها مهاجرين يخاطرون بالموت في أعماق البحار في رحلة البحث عن ملاذ آمن أو مستقر لعيش كريم.
نوقع العشرات من الاتفاقات الاقتصادية العربية الجماعية والثنائية ونعلن اقترابنا من تأسيس سوق عربية مشركة بينما نستورد كل شيء من الخارج بدءاً من السيارة الأمريكية وجهاز الكمبيوتر الياباني وانتهاء بعلبة اللبن التركي.

نروّج لبرامج السياحة في عواصم ترتفع فيها أكوام القمامة جبالاً مغطاة بالذباب.
انفصام كامل بين ما نعيش وما نحكي ونكتب عن أنفسنا، وكأننا نستمرئ الهروب من الواقع إلى أحلام يقظة لا يقظة فيها.
في بلادنا يزيد عدد الفقراء ولا يقلّ عدد الأثرياء، وفي بلادنا تغلق المصانع وتفتح المقاهي، وتموت الأحزاب وتنتعش الجمعيات الخيرية، ويتحدث الناس في السياسية في لقاءات المقاهي ويكتفي المشاركون في المؤتمرات السياسية بشرب الشاي.

كنت في ما مضى أنتقد المهاجرين إلى الغرب، وأتهمهم بالانسلاخ عن أمتهم وقضاياها. لكنني الآن، وربما بعد فوات الأوان أدرك أننا أمة بلا قضية ولا مشروع وأن كلام الصالونات يمحوه إحباط الشوارع ويأس الناس من واقعهم ناهيك عن هروبهم من التفكير بمستقبل يظل مجهولاً وعلى كف عفريت.
هل أبالغ؟ دعونا نقرأ ما كتبته صحيفة فرنسية عن مشهد في بلادنا حين تطير قاذفة حربية إسرائيلية معادية ثمنها عشرون مليون دولار لتطلق صاروخاً ثمنه مائة ألف دولار ليقتل فلسطينياً في غزة يعيش على أقل من دولار واحد في اليوم!

ثم نعود بعد خبر القصف مباشرة، لنؤكد أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة! وكأننا نحاول تغييب الحقيقة بأن على هذه الأرض كل شيء متاح ومستحق إلا الحياة.

لست سوداوياً ولا أقصد إشاعة اليأس والإحباط، لكنني لست حالماً ولا واهماً ولا أطيش على شبر ماء لأصدق ما تقوله الصحف والقنوات الفضائية عن انجازاتنا العظيمة في العصر العربي الزاهر، وعن قيمة الفرد في مجتمعات يضيع فيها الفرد على أرصفة اللجوء والبطالة والقهر والفقر، ويواجه شبهة اللاوطنية والتنكر للوطن حين يغيب عن الزفة الإعلامية الكاذبة.

رغم كل ما لدينا من عبثية ومن مشهد حياتي صادم ومكتظ بالسخرية لا كتاب ساخرين لدينا، لأن كل من يفك الخط يذهب إلى التنظير وإلى تمجيد واقع الأمة بلغة وقورة تليق بعظمة تاريخها، حتى أصبح الكتاب متشابهين وكأنهم مستنسخون عن نموذج واحد يراد له أن يظل غارقاً في التفاصيل الصغيرة وألا يرى ما نحن فيه.

ربما حان الوقت لنتواضع قليلاً وأن نغير محتوى خطابنا الإعلامي ليقترب أكثر من حياة عربية صعبة.. بلا رتوش.