الخميس 16 مايو 2019 / 22:58

مواطن الحداثة وصحوة دراسات التابع!

الرجوع إلى الذكرى عند ديبيش شاكرابرتي لجوء إلى علاج كلاميّ، وشأن المعالجات الكلاميّة جميعها، لاضمان بأنَّ العلاج سيكون مستداماً

في كتاب "مواطن الحداثة، مقالات في صحوة دراسات التابع"
Habitations of Modernity_essays in the Wake of Subaltern Studies
يتناول المفكر -ما بعد الكولونيالي- الهنديّ ديبيش شاكرابرتي Dipesh Chakrabarty إشكاليّة ثقافيّة كبرى هي "كيف يفكر مثقفو العالم الثالث بالمصاعب التي تواجه الحداثة في بلادهم؟ وما المشكلات المشتركة التي يقابلها الأنثروبولوجيون ومؤرخو ما بعد الحداثة في هذه البلاد؟ وهل يمكن التوصل إلى حداثة ما بعد استعمارية تتخطّى أخطاء حداثة ما بعد التنوير الأوروبيّ؟

هذه الإشكاليات والأسئلة الصعبة جميعها شكّلتْ أساس هذا الكتاب؛ فقد تناول ديبيش شاكرابرتي تجربة تقسيم الهند والحرب الطائفيّة التي اشتعلت فيها بسب تعدديتها اللغوية والدينية والثقافية إلى جانب اندلاع العنف الطائفيّ فيها.
لقد حدث هذا بسبب التفاوت الصارخ بين التابع؛ أيّ الإنسان البسيط المهمش في رؤيته التقليدية والمثقف السياسيّ الهنديّ الذي يتبنى رؤية التنوير الأوروبيّ (الرؤية المتعالية)؛ وهي الرؤية النابعة من المركزية الأوروبية التي لا تصلح مطلقًا للتطبيق على الهند! الهند قارة عظمى من الخصوصيات السياسيّة والثقافيّة والحضارية؛ وأيّ تنظير سياسي لا ينبع من خصوصيتها الحضارية العريقة سيواجه حتمًا بالفشل الذريع.

وعلى مدى عقود من الزمن ابتداءً من حقبة الثمانينيات في القرن العشرين أثّرت "دراسات التابع" التي ركّزت على دراسات المهمشين من الهنود من خلال مؤرخيها الماركسيين في صعود القومية الثقافيّة والعدوانيّة في الهند من خلال استثمار القوى اليمينيّة الهندوسيّة لهذه الدراسات ضد الأقليات المسلمة والمسيحية عن طريق تعريضهم للمعاملات التمييزية.
 ويبحث ديبيش شاكرابرتي الوسائل التي تستطيع من خلالها "دراسات التابع" أن تتخطى التأويلات المحرّفة والمغلوطة التي نظرتْ إليها بوصفها مرتكزًا ومسوَّغًا للسياسات الشوفينيّة ضد الآخر "المختلف" أيًا تكن هويته في الهند. إنَّ المسوِّغ الأكبر لرؤية شاكرابرتي يصدر عن تجربة شخصية عايشها في طفولته إزاء تقسيم الهند إلى أجزاء بما فيها انفصال بنغلاديش عنها.
يقول ديبيش: "كنا نُدعى "بنغال" في حين كان المواطنون القدماء في كالكوتا الذين أظهروا انتماء أكبر إلى القسم الغربيّ من بنغال يُدعون"غهوتي". ويحتفي ديبيش على طريقته بالاختلاف الإيجابيّ الذي يؤدي إلى تقبّل الآخر وتقبّل هويته وخصوصياته الثقافيّة دون طمسه ومحوه. يقول ديبيش: "أعني بـ"الهوية" طريقة للنظر على الاختلاف يتمّ فيها تجميد الاختلاف أو كتمانه. وبعبارة أخرى إمّا أن يُجمدّ أو يُثبّت أو يتمّ محوه بادعاء التطابق أو كونه الشيء نفسه"، وعند ديبيش لابدَّ أن نحتفي بالاختلاف من خلال "التعايش".

تحتفي التواريخ الجديدة في جماعة "دراسات التابع" بالاختلاف، ويمثل لها الكاتب ببحث مينون وبهاسكار بعنوان"الحدود والتخوم" وبحث بوتاليا "الطرف الآخر للصمت" وكتاب باندي" تذكُّر التقسيم" وبحث "داس" أحداث حاسمة" الذي يركِّز على تجربة العنف والمعاناة والبقاء؛ إنَّ هذه الدراسات جميعها هي دراسات عن "سياسة الاختلاف".

لقد كشفتْ كافيتا دايا عن سلسلة مماثلة من الخطوات البلاغيّة في تمثيلات عنف التقسيم في القصص والأفلام والقصص من أمثال "المرأة في معطف مطريّ أحمر" أو "أبرد من الثلج" لكاتبهما سعادت حسن منتو، وهي قصص تصوِّر الرغبة في "العنف الجنسيّ العرقيّ" بإحالة النساء إلى مجرد أشياء جسمانية أو أجساد ميتة، وهذه السرديات للعنف الذي رافق التقسيم في عبارة سارتر" تعلن حقّ المطالبة بالوضع الإنسانيّ وترفضه في آن واحد".

إنَّ الرجوع إلى الذكرى عند ديبيش شاكرابرتي لجوء إلى علاج كلاميّ، وشأن المعالجات الكلاميّة جميعها، لا ضمان بأنَّ العلاج سيكون دائماً. وهي دعوة أخلاقية تنبع من انغماس المرء في الحاضر، وسط أحداث العنف، عندما يتساءل المرء: كيف أتعامل مع سياسة الاختلاف؟ ووفقًا لسياسات التعايش الواقعية وبعيدًا عن اليوتوبيات المثاليّة التي لا أساس لها في أرضية الواقع السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ. عندما كتب المفكر الفرنسيّ بول ريكور كتابه المهم "الذاكرة، التاريخ، النسيان" كان يتحدث عن كوجيتو الإنسان القادر "أنا أقدر إذن أنا موجود"، والقدرة تتضمن الغفران دون أن تعني النسيان. ولذلك ثمّة تداخلات واشتباكات لدى كل من ديبيش شاكرابرتي وبين بول ريكور في فعل الذاكرة وفعل النسيان وفعل الغفران.

وكتاب "مواطن الحداثة، مقالات في صحوة التابع" في نسخته العربيّة من ترجمة مجيب الرحمان، الأستاذ المشارك في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة جواهر لال نهرو، ومن إصدارات مشروع "كلمة" الإماراتيّ للترجمة الصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والسياحة.