تظاهرة في ألمانيا مؤيدة لحركة المقاطعة (أرشيف)
تظاهرة في ألمانيا مؤيدة لحركة المقاطعة (أرشيف)
الأحد 19 مايو 2019 / 21:43

حركة المقاطعة وسباق الإسرائيليين مع الزمن

تبنى البرلمان الألماني، قبل أيام قليلة، قراراً غير إلزامي يُصنف "حركة مقاطعة إسرائيل" بوصفها معادية للسامية.

إسرائيل كلما ازدادت قوّة أصبحت أقل احتمالاً للنقد وضيقاً بالمعارضين. وهذا ما يجد تفسيره في إدراك صنّاع السياسة الإسرائيلية لتآكل التعاطف مع الدولة الإسرائيلية في الغرب،

وما يستدعي الملاحظة، في هذا الشأن، أن حزب البديل لأجل ألمانيا، الذي يمثل اليمين الشعبوي الصاعد، مع كل ما ينطوي عليه من نزعات عنصرية، كان الأكثر حماسةً بين القوى السياسية، ودعا إلى حظر وجود الحركة أيضاً.

حركة مقاطعة إسرائيل جماعة ضغط فلسطينية ـدولية يمثل اسمها الشائع اختصاراً لثلاث كلمات باللغة الإنجليزية تعني المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات، ويتمثل هدفها الرئيس في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، والمساواة بين المواطنين، وحق اللاجئين، ونسلهم، في العودة.

وقد أصبحت ذات نفوذ واسع في السنوات الأخيرة، خاصةً في أوساط الفنانين، والمثقفين، وفي الأكاديميا الغربية، وحتى الإسرائيلية. لذا، لم يكن من قبيل المصادفة أن ينتقد أكاديميون إسرائيليون، أيضاً، قرار البرلمان الألماني.

وما يستحق التوضيح، في هذا الصدد، أن قرار البرلمان الألماني، الذي أعقب، أخيراً، محاولة تشريع مناهضة العداء للصهيونية نوع من العداء للسامية في فرنسا، والذي سبقته تشريعات مشابهة في أمريكا، يمثل نجاحاً للسياسة الخارجية الإسرائيلية، في عهد نتانياهو ومعسكر اليمين القومي الديني من ناحية، ويُعبر عن نزعة متصاعدة في أوروبا والولايات المتحدة من ناحية ثانية.

فمنذ عقدين من الزمن، وبعد صعود معسكر اليمين القومي الديني في إسرائيل، يسعى الإسرائيليون في مناطق مختلفة من العالم، وفي الغرب على نحو خاص، إلى إلغاء الفرق الدلالي والسياسي والأيديولوجي بين ثلاثة مفاهيم، هي العداء التقليدي للسامية، ومناهضة الصهيونية، ونقد الدولة الإسرائيلية.

وفي المقابل، تبالغ الشعبويات اليمينية الصاعدة في الغرب، وهي عنصرية في الجوهر، في التماهي مع إسرائيل، والدفاع عنها، وتبني مواقفها السياسية والأيديولوجية بما فيها تصنيف كل نقد محتمل لإسرائيل كدولة، وللصهيونية كأيديولوجيا، في خانة العداء للسامية. بمعنى أكثر مباشرة تتصرف وكأنها ملكية أكثر من الملك.

وفي سياق كهذا تضيع الدلالة الأصلية لتعبير العداء للسامية، الذي يعني العداء لليهود كبشر، ولليهودية كديانة. ولهذا العداء تاريخ وثيق الصلة، في أوروبا على نحو خاص، بصعود القوميات الأوروبية في القرن التاسع عشر، وكارثة المحرقة النازية في الحرب العالمية الثانية.

وقد ترك التاريخ الأسود للعنصرية الأوروبية، وكارثة المحرقة، إحساساً دائماً بالذنب في المناهج التعليمية، والثقافة العامة في الديمقراطيات الليبرالية في الغرب، وفي مناطق مختلفة من العالم. وكان هذا أحد مصادر التعاطف مع إسرائيل لدى قطاع واسع من الأوروبيين والأمريكيين.

وإذا شئنا إمساك الثور من قرنيه، كما يُقال، فإن الاحتلال والعدوانية الإسرائيلية أسهما في تآكل هذا التعاطف إلى حد كبير، منذ الانتفاضة الأولى في 1987. ومع تقدم وسائل الاتصال، في العقود الأخيرة، وانتشار الفضائيات، والإنترنت، وشبكات ومنصات التواصل الاجتماعي، أصبح في وسع الكثيرين، في أوروبا وخارجها، الاطلاع بشكل مباشر على حقيقة ما يحدث على الأرض في فلسطين والشرق الأوسط عموماً.

ولا مجازفة في القول إن حركة المقاطعة لم تكن لتصبح ناجحة وقوية إلى هذا الحد لولا وجود وسائل وتقنيات الاتصال الحديثة، وإمكانية التشبيك، وسرعة نقل وتعميم الصور، والمعلومات، وهذا كله على خلفية انسداد الأفق السياسي، وتجلي العدوانية الإسرائيلية بطريقة يصعب التغاضي عنها، كما في الحملات العسكرية المتلاحقة على غزة.

والمفارقة أن إسرائيل كلما ازدادت قوّة أصبحت أقل احتمالاً للنقد وضيقاً بالمعارضين. وهذا ما يجد تفسيره في إدراك صناع السياسة الإسرائيلية لتآكل التعاطف مع الدولة الإسرائيلية في الغرب، ورهانهم على الشعبويات واليمين الصاعد، الذي يُمثل في نظرهم فرصة لا تعوض لحسم مصير الأراضي المحتلة في 1967، وتبديد مشروع قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ناهيك عن ضم الجولان، والسيادة على القدس. لذا، يتسم سلوكهم بنفاد الصبر، والحساسية المُفرطة إزاء حركة المقاطعة، رغم سلميتها، والتزامها بالقانون، وبالحق في حرية التعبير، التي يرون فيها خطراً لا يمكن التغاضي عنه، أو التساهل معه.

وتبقى، في هذا الصدد، ملاحظة أخيرة.

إن العداء للسامية، جزء من رأس المال الأخلاقي، الذي اعتمد عليه الإسرائيليون، واستثمروا فيه، وراهنوا عليه، على مدار عقود طويلة. ولكن توسيع الحد الدلالي للمفهوم، وتسييسه، وتحويله إلى قناع للعدوانية والتوسع، وانتهاك الشرعية الدولية، وإلغاء الفرق بينه وبين مناهضة الصهيونية، وسياسات الدولة الإسرائيلية، يُلحق الضرر بالمفهوم الأصلي نفسه، ويُفقده المركزية، والحصانة والجدارة.

وبهذا يصدق عليهم القول إنهم يراهنون، اليوم، بكل رأسمالهم، أو ما تبقى منه، في مجازفة غير مضمونة العواقب، وقد أصبحوا في سباق مع الزمن.