عايض القرني (أرشيف)
عايض القرني (أرشيف)
الأحد 19 مايو 2019 / 21:14

الاعتذار الذي نكأ كل الجراح

رغم شبح الحرب الجديدة، إلا أن الصحافة السعودية لا تزال تنشر عشرات وعشرات المقالات عن اعتذار عايض القرني عما فعلته الصحوة. نحن أمام حالة استفراغ حادة ومخيفة. عَم اعتذر القرني؟

المثقفون في السعودية كثر, وكلهم لفحته نار الصحوة وانتقامها الشنيع لمجرد أن طالب أحدهم بأشياء لا تخرج عن دائرة الفقه الإسلامي

سؤال صدم كثيرين من الصحويين صغار السن ولسان حالهم يقول: أعداء الصحوة كلهم كفرة، فلماذا يعتذر وعم يعتذر؟ أما كبار السن من الصحويين، فيعرفون جيداً تلك الأخطاء، بل الكوارث التي جلبتها الصحوة، ويعلمون جيداً أنهم ارتكبوا أخطاء كبيرة وتركوا في نفوس الناس جراحات وكدمات باتت قديمة متعفنة، وقد لا يمحوها الزمن.

عندما كان أحد المثقفين يدخل في حالة خصومة مع الصحوة أو مع أحد رموزها، بحيث يقول: "أنا عدو الصحوة ومن واجبي أن أحذر مجتمعي ووطني من الأخطاء التي ستجرنا إليها" كانت هي ترد بالقول" "أنت لست عدوي، بل أنت عدو الله". هكذا دفعةً واحدةً، وباحتكار كامل وحصري للحديث الرسمي باسم الله.

لا يهم أبداً هل هو متدين أم غير متدين، بل لا يهم إن كان يصحو وينام في المسجد، ما دام أنه ضد المشروع، فهو عدو الله. من هنا يتضح لنا أن القضية سياسية منذ البداية، ولم تكن غيرة محضة على الدين، كما كان الناس يتصورون في أيام قصور الوعي وغياب التصور الصحيح، ولا أدل على ذلك من قلبهم ظهر المجن للقرني نفسه الآن، فبعد أن كان الشيخ العلامة الفهامة الذي لم ير مثل نفسه، أصبح الإعلام الصحوي وعلى رأسه الإعلام القطري وقنواته المتعددة، يحدثنا عن أكاذيب القرني، وفضائح القرني, وكأنه لم يكن حبيبهم المقدم فيهم بالأمس!

القرني لم يكن أول من اعتذر، بل لو رجعت أيها القارئ الكريم إلى تصريحات عدد من الصحويين المشهورين، لوجدت أنهم في السنوات الأخيرة اعترفوا وكرروا الحديث عن "التغير"، و "المراجعات" التي حصلت لهم، كنوع من الركض، وأنه قد اتضح لهم أنهم أخطؤوا، وتشددوا في الدين وقسوا في خصوماتهم، وما كان هذا الاعتذار الصريح من القرني إلا القشة التي قصمت ظهر البعير.

هذه يجب أن نحفظها للقرني، أنه كان صريحاً في مقابل آخرين حاولوا أن يعتذروا بمراوغة باردة.

عندما نقول: "قسوا في خصوماتهم" فإننا نماشيهم لنكون على نفس السطر، وإلا فالواقع أنهم دمروا فعلياً حياة أناس كثيرين تدميراً كاملاً شاملاً، وشوهوا سمعة أناس لا يستحقون تشويه السمعة، أناساً هم مِلح البلد.

لا يوجد في العالم العربي كله من تضرر بالغ الضرر من الصحوة، كما تضرر رجال ونساء الفكر والثقافة في السعودية، فقد فصلت الصحوة أناساً كثيرين من وظائفهم، ومصادر رزقهم، ولم تكتف بذلك وكأن الفصل من العمل لا يكفي، فأضافت إلى ذلك تشويه السمعة والاتهام بالإلحاد، ودعوة المجتمع لمقاطعتهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فعاشوا منبوذين بين أقاربهم وجيرانهم، لمجرد أن مشايخ الصحوة خاصموهم.

من أبسط الأشياء أن تتهم الصحوة في تلك الأيام شخصاً بأنه ملحد، كل من يقول أو يكتب كلاماً لا يفهمونه يتهمونه بالإلحاد فوراً، أحدهم اتهم كاتب هذه السطور بأنه "وجودي ملحد" ولو أنك طلبت منه أن يكتب سطرين عن الوجودية ما استطاع.

وشخص آخر طالب بجلد كاتب هذه السطور أمام "الملأ" ليكون عبرة لمن اعتبر، لمجرد أنه كتب أن "الإنسان والوطن أهم من ابن تيمية"، وقال صحوي تحرر من الصحوة: "الحمد لله أنني لم أقابلك إلا بعد تغيري، لأني لو قابلتك قبلها لقتلتك"!

أما الدعوة للمقاطعة فتشمل السعي لتطليق الزوجات أو الأزواج، وألا يدخل أحد مع أعداء الصحوة في نسب، وألا يدخل أحد معهم في تجارة أو مصلحة مادية. ثم يأتي بعد ذلك أذىً أقل درجة، وذلك حينما يفشلون في فصلك من عملك، فينتقلون إلى التضييق عليك والكذب عليك، وإلحاق الأذى بك، من كل أذى ممكن.

لا تعجب أيها القارئ أن ترى سبعين مقالاً في أسبوع تتحدث عن نفس الموضوع، فالمثقفون في السعودية كثر، وكلهم لفحته نار الصحوة وانتقامها الشنيع لمجرد أن طالب أحدهم بأشياء لا تخرج عن دائرة الفقه الإسلامي، قضايا في غاية التفاهة مثل قيادة المرأة للسيارة، وافتتاح دور السينما.

لم يسلم من تلك النار أحد، ابتداءً من مثقف السعودية الأول المرحوم د. غازي القصيبي، إلى أصغر واحد فينا، ولا يزال عندنا إلى وقت قريب من يرفض أن يكون هناك رسالة ماجستير أو دكتوراه عن القصيبي بدعوى أنه كبير الزنادقة وداعية الانحلال، رغم أن الجميع يعرف اليوم أنه لم يكن كما كانوا يقولون.

من هنا نفهم رفض الروائي السعودي عبده الخال لاعتذار عايض القرني وقوله: "دمرت حياتي وشوهت سمعتي، فكيف أقبل اعتذارك؟!" بطبيعة الحال هو لم يكن يخاطب عايض، وإنما يخاطب الصحوة ككل.

نعم نحن متسامحون وقد عفونا عما سلف، لكن كل هذا تاريخ خطير يجب علينا وجوباً عينياً، أن نشارك في تدوينه حتى لا يحدث مرة أخرى، لا بد أن تعرف الأجيال القادمة ما حدث كما حدث، بلا زيادة أو نقصان. فإذا فعلنا هذا آن لنا أن نتنفس الصعداء، ثم نعود ونكرر ونقول: الحمد لله على نعمة اسمها محمد بن سلمان.