محمد عبده (أرشيف)
محمد عبده (أرشيف)
الثلاثاء 21 مايو 2019 / 22:05

"محمد عبده" يُشرقُ في سماء الأوبرا القاهرية

في مصر، ننتظرُ هذا اللقاءَ الثري من العام إلى العام في مثل هذه الأيام التي تقفُ على الخاط الفاصل بين الربيع والصيف.

الحنجرةُ الدافئةُ كانت صُنوَةَ صِبانا ورفيقةَ شبابنا في مصرَ والعالم العربي من أدناه إلى أقصاه

قبل رفع الستار في المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية بالقاهرة، جلسنا مجموعة من الأصدقاء نتهامسُ حول ذكرياتنا مع أغنيات المطرب السعودي الكبير محمد عبده. كل راح يحكي من مخزون صباه وذكريات شبابه مع هذا الصوت الآسر، يا مركب الهند يا بو دقلين، يا ليتني كنت رُبانك، وليلة كانت الفُرقة، وقالت لي في أمان الله، وجات تاخد رسايلها، وخصلة من جدايلها، وتديني جواباتي، لا تردين الرسايل، وإيش أسوّي بالورق، وكل معنى للمحبة ذاب فيها واحترق.

كُنا نُمني النفسَ بأن نستمع إلى تلك الأغاني القديمة التي حُفرت كلماتُها وموسيقاها على أوراق أعمارنا، لنرقص مع نوستالجيا عشقنا وذكريات هوانا.

فُتحَ الستار المِخملي الأحمرُ، ودخل محمد عبده في كامل أُبهائه وشبابه ورصانته المعهودة، حاملاً صندوقَ ألماساته وجواهره الخبيءَ في حنجرته.

ورغم هتافاتنا بأسماء الأغنيات التي سمعناها صغاراً، ورغم أنه لم يستجب إلى رجاءاتنا، لأن الحفلَ سار بانضباط وفق البرنامج الذي تضمن ثلاث عشرة أغنية منها أغنيات الألبوم الجديد "يا غافية قومي"، إلا أننا اكتشفنا أن عشقنا لهذا الفنان الجميل ليس رهناً بما نحفظ له من أغنيات قديمة، بل هو مرهون بسحر خاص في نبرة صوته، تتجلى مع كل ما يقدّم من طرب.

 تلك كانت لحظة إدهاش بالنسبة لي. أما الدهشة الأخرى فكانت في نوعية الجمهور الذي ضاق به المسرح الكبير بكامل لوجاته وبونواراته. وكلمة "نوعية" هنا غير دقيقة، لأنك لا يمكن أن تجمع ذلك الحشدَ الهائل في فصيل واحد أو عمر واحد أو طبقة أو عرق.

كان الجمهور عربياً، ومصرياً، شباباً وكهولاً وأطفالاً. كان الجمهور الذواقة المتناغم مع الموسيقى بطلاً حقيقيًّا مع العازفين المدهشين في فرقة المايسترو هاني بركات، فخرج الحفل، مع الإخراج المبهر، وسينوغرافيا الخلفيات الرائعة، على مستوى أسطوري يشارف الكمال.

كانت الموسيقى دافئةً تمس القلب، من إبداع الموسيقار السعودي د. طلال الذي صاغ النغماتِ، وشيد المقاماتِ، وعلا بالجوابات وهبط بالقرارات، ونحت الجملَ الموسيقية الشرقية، ثم صبغها بروح الحداثة العالمية، حتى استوت بين يديه آيةً من آيات الإتقان الموسيقي والعذوبة، تنتظر الحنجرةَ الصادحةَ الدافئة التي بوسعها أن تُضفِّرَ تلك النغماتِ بكلمات فريدة جديدة، مع فيض من الإحساس المُرهَف، عبر صوتٍ خاص شجي لا شبيه له إلا نفسه، فتدخل تلك التوليفة الطربية الجارحة قلوبَنا العطشى فترويها، ثم تنطلق منها إلى آذاننا وحوّاسنا، فننتشي ونتسَلطَن ونثملُ، من دون خمر.

وأما الحنجرة الدافئة فكانت صُنوةَ صِبانا ورفيقةَ شبابنا في مصرَ والعالم العربي من أدناه إلى أقصاه. كبرنا مع شدوها، وتفتحت قلوبُنا في الحب على صدحاتِ أحبالِها، وتشكل وجدانُنا الطربي مع شجوها ودفئها. إنها حنجرةُ المطرب السعودي الأشهر محمد عبده.

وكان لقاءُ الموسيقار والمطرب، في ذاك المساء البهي في "دولة الأوبرا المصرية" بالقاهرة، كما يطيبُ لي أن أسميها، بمثابة "الحركة الرابعة" من سيمفونية رباعية طويلة امتدت سنواتٍ أربعَ. عُزفت الحركاتُ الثلاثُ الأوَل في مثل هذا الوقت من الأعوام الثلاثة الماضية وفي ذات المكان، دار الأوبرا المصرية بالقاهرة، بواقع حركة في كل عام. وتُوجت تلك السيمفونية، التي نرجو لها أن تكسر القواعد الموسيقية وتغدو ألف حركة، تُوجت بحفل أسطوري "آرش كومبليه"، كامل العدد، سجلته الفضائيات وسوف يُعرَض على قناة Mbc مصر قريباً مع نسائم عيد الفطر المبارك بإذن الله.

وكأن قطعةً غالية من صِبانا التي ضاعت مع السنوات، غادرت مكانها الخبيء على خط الزمن، ثم طارت إلى حيث نجلس في دار الأوبرا، وراحت تحوم حولنا برهةً، ثم استقرت وحددت هدفَها، وسرعان ما اخترقت أعماقَنا بعد فراق وغيبة سنواتٍ وعقوداً.

إنها نوستالجيا الصبا الجميل الذي نرفض أن يغادرنا. فإن خاتلنا وغادر، يعيده صوت عبقري حسّاس مثل صوت محمد عبده. ساعتان من الفن الرفيع والشجن، حصدنا خلالهما جرعةً وافرة من السلطنة والتطريب الذي نتوقُ إليه في هذا الزمن الجاف.

نعم، الفنّ الحقيقي يعرف كيف يفرضُ نفسه ويعيش، مهما منع عنه الأكسجين تحت وطأة لحظة تهاوتِ فنياً وانحطت فيها المسامعُ التي أهانت نفسَها. ثمة آذان ذوّاقة لم تزل ترفض أن تبتذل مسامعَها، وتَضِن على نفسها أن تهوي مع الهاوين، وتظلّ تبحث عن الجمال والإتقان والرقي. وهي واجدتُه لا محاله، مادام لدينا قامات فنية رفيعة باقية، ومادامت مشرقةً دولة الأوبرا المصرية التي لا تقبل إلا بالرفيع.

شكراً لكلّ منظّمي هذا الحفل البهيّ الخالد، وشكرًا دار الأوبرا المصرية الجميلة. وشكراً أيها الفن الرفيع، الذي لولاكَ لما تنفست أرواحنا.