حديقة بوذا في سلوان.(أرشيف)
حديقة بوذا في سلوان.(أرشيف)
الجمعة 24 مايو 2019 / 20:34

أحوال البطل الروائي

الرواية تحتاج إلى الجرد والتعداد اللامعقول، تعنيها كثرة الكلمات، وسراب المعنى، ولهذا فهي مطرودة من جنة البلاغة، أمّا جملة العطف، فالمشانق مُعلَّقة لها، على أبواب الشعراء

في 1997 صدرتْ لي رواية "هراء متاهة قوطية". اثنان وعشرون عاماً، جسر من زمن صدورها إلى الآن، جسر مشدود على هاوية. يافطة مُعلقة على بداية الجسر تقول بكلمات مُتعالية: لا تختبر متانة الجسر. أنا نفسي لا أُقدم على اختباره، أنا مَنْ شيدته بأخشاب نخِرة، وحِبال بالية. حديثي هنا ليس عن القيمة، فأي شيء يمر عليه زمن كاف، يكتسب معنى النجاة، والنجاة تطرد القيمة، وتحتل مكانتها.

ينتزع العمل الأدبي نجاته، بشخص واحد على الأقل، هو الكاتب والقارئ في نفس الوقت. يتذكَّر الكاتب عمله الأدبي، دون المُغامَرَة بإعادة قراءته، يكفيه فقط أن ينعم بنظرة متأنية على الجسر. نصيحة الكاتب للقارئ: لا تختبر متانة الجسر. أمّا إذا أردنا القول بأن النجاة بشكل ما، هي ضد النسيان، والتذكُّر في نهاية الأمر، باب خلفي للقيمة، أو خفة يد، لسرقة الخلود من جيب الزمن، فليكن.
كانت رواية "هراء متاهة قوطية" في جزأين، الجزء الأول بعنوان "ما يعرفه أمين"، وكان هذا الجزء مشروع سيناريو، ولهذا كان مكتوباً بلغة وصفية، مشهدية، لا أثر فيها للحديث عن انفعالات الأبطال الداخلية، وتأويلها وشرحها والتعليق عليها، أمّا انفعالات الأبطال الخارجية، البصرية، الوصفية، فكادتْ أن تصيب القارئ بالتخمة. كنتُ واقعاً وقتها تحت تأثير دوستويفسكي سيما الأعمال غير المشهورة، "حلم العم"، "قلب ضعيف"، "في قبوي"، أو بمعنى أدق، كنتُ واقعاً تحت تأثير إهانات وإذلالات دوستويفسكي لأبطاله.

بطلي أمين يقع فريسة في يد أشقياء، نصف أصدقاء، يمارسون عليه أشد أنواع الإهانات المعنوية، والتلويحات بإهانات جسدية مُحتَمَلَة في لعبة الأطفال البريئة، لعبة "صلَّح". في الأدب لا أعرف لماذا فضَّلتُ دائماً تثبيت مكان أو مكانين تجري فيهما، أو حولهما أحداث الرواية، بحيرة بوذا وتلاميذه في "ما يعرفه أمين"، ومستشفى حلوان العام في "هراء متاهة قوطية"، الجزء الثاني من الرواية، والذي أخذ العنوان النهائي للرواية.

ربما كان تثبيت المكان، والعودة إليه مرة ثانية وثالثة، في أعمال أخرى، نابعاً من إحساس فادح بالتقصير الجمالي في حق المكان، وكأنني لم أستوف كل زواياه في الوصف. في الواقع لطالما عدت لبحيرة بوذا، ومستشفى حلوان العام، وعلى وجه الخصوص في ساعات الصباح الأولى، وساعات الليل المتأخر.

بحيرة بوذا في الحديقة اليابانية بحلوان، أشبه بحمام للسباحة، يشرف عليها في الأعلى، كمنقذ، بوذا المبتسم، خليّ البال. مُفَارَقَة، عملتُ كمقذ من الغرق، على حوض سباحة في صيفين متتاليين أثناء الدراسة الثانوية. يقول سيوران: المياه كلها بلون الغرق.

أشقياء "ما يعرفه أمين"، نُنَّة، وعادل ريتا، وبوسي، ينتقلون إلى الجزء الثاني من الرواية، هم أصدقاء الراوي الذي يأمن شرهم، عكس أمين، والسبب أن الراوي يعرف شيئاً عن الشقاوة، أو كان شاهد عيان عليها، أو مارسها فترة من حياته، لكنه لم ينجرف إلى نهايتها، لهذا كان بمثابة كرباج الأنا الأعلى للأشقياء الثلاثة، نُنَّة، وعادل ريتا، وبوسي، كان ضميراً لا يرحم.

في الجزء الثاني من الرواية، هناك اللغة الأدبية، هناك الاستعارة، والمجاز، واستلهام لغة "ألف ليلة وليلة". كنتُ مسحوراً بلغة التعداد، قوائم الجرد، كأنني صاحب محل خردوات، وبواو العطف، أو بجملة العطف كنتُ أقول على سبيل المثال: وضعتُ في الجراب جاموسةً وبقرتين، وثوراً وشاتين، ونعجة وسلخين، وفأرةً وضبعين، ونطعاً ومخدتين، وسماطاً وملعقتين، وجنكاً وعودين، ودفاً وطبلتين، ومرتبة وسريرين، وبيتاً ورواقين، وتنيناً وأميرتين، وزقاقاً وحارتين، ومدينة وقصرين، وذبابةً وقلعتين.

الحقيقية أن جملة العطف المشمولة بواو التعداد الجرد، ضد نهج البلاغة، فالبلاغة اللغوية تقوم على الاقتصاد في الكلمات، حتى لو كانت بواو العطف، شرط أن تكون واو العطف، معقولة، مُقتصدة، وليس غايتها التعداد والجرد، مثل القول الرصين: ليل داج وبحر ساج وجبل ذو فجاج. يكون التحدي، أنه كلما اقتصدت في الكلمات، كلما ازداد المعنى اتساعاً ورحابةً. يبدو أن جماليات اللغة كانت تشتغل لحساب الشعر فقط.

الرواية تحتاج إلى الجرد والتعداد اللامعقول، تعنيها كثرة الكلمات، وسراب المعنى، ولهذا فهي مطرودة من جنة البلاغة، أمّا جملة العطف، فالمشانق مُعلَّقة لها، على أبواب الشعراء. مراحل البطل كانت شخصية أمين في "ما يعرفه أمين"، ثم الراوي في "هراء متاهة قوطية"، ثم طبْل في فيلم "جنة الشياطين". أمين كان فريسة لنُنَّة وعادل ريتا وبوسي، والراوي كان في صحبة نُنَّة وعادل ريتا وبوسي، وطبْل كان جثةً مُخْتَطَفَة من قِبَل نُنَّة وعادل ريتا وبوسي.