سودانيون يتظاهرون في الخرطوم (أرشيف)
سودانيون يتظاهرون في الخرطوم (أرشيف)
الإثنين 3 يونيو 2019 / 21:44

عسكرة المجتمع

ماذا يصيب العالم العربي اليوم؟ نتفاضات تهدأ ثم تتجدد وتعود لتنتفض ثانية. يمكن أن نقول في ذلك إنها ثورات، ويمكن أن نقول أنها هيجانات وهوسات. يمكن أن نقول أيضاً وبالقدر نفسه إنها لا شيء، أو أنها انفجارات يتبين في الأخير أنها مجرد لا شيء.

غير الفلسطينيين يحلمون مع الفلسطينيين ببلد لم يكن لهم في يوم، لكنه كان لهم دينياً وكان لهم ثقافياً وكان لهم تاريخياً

منذ احتلال فلسطين وقيام اسرائيل ونحن نراوح في هذا المكان الذي هو تقريباً لا مكان. لم يكن سقوط فلسطين حدثاً تأسيسياً فقط، بل بدا كأنه لم يحدث بعده شيء.

منذ قيام اسرائيل أعلن التاريخ عندنا سكوته. الفلسطينيون مشردون لكنهم يحلمون بالبلد الذي أُخرجوا منه، يحلمون ببلد كان لهم في يوم. غير الفلسطينيين يحلمون مع الفلسطينيين ببلد لم يكن لهم في يوم، لكنه كان لهم دينياً وكان لهم ثقافياً وكان لهم تاريخياً.

الحلم بفلسطين، سقوط فلسطين الذي كان حدثاً تأسيسياً، لم يؤسس لشيء سوى لانقلابات عسكرية، هي التي غمرت تاريخنا المعاصر، لكن حكم العسكر كان بحد ذاته غريباً. لقد جاء جواباً على هزيمة لكنه مع ذلك لم يؤسس نصراً، ولم يقم دولةً ولم ينشئ حتى جيوشاً.

لقد بنى استبدادات راسخة أعلى حصوناً وقلاعاً له لكنه لم يقم جيوشاً ولا دولاً. لقد جاء بأمل أن يبني ذلك، واستُقبل على هذا الأساس، جاء ليسترد بالسلاح ما اغتُصب بالسلاح، فكان ما ظهر بعد حقبة من قيام العسكر، أن قشرة غريبة على المجتمع استقرت على رأس المجتمع.

لم تتجذر فيه ولم تتصل ببنيانه وأطرافه ولم تدخل في صميمه ومكوناته كلها. لقد بقيت طافية فوقه ولم تؤسس مع ذلك دولة لأنها لم تؤسس شعباً، ولم تدخل في مسام ومقومات شعب.

لقد جاءت كوعد بالقيامة، وعد بالقوة والتحرير. وبالفعل جاءت لعسكرة المجتمع وعسكرة الشعب، وخلال سنوات وعقود كانت هذه العسكرة هي المثال.

لقد أشعرت المجتمع بأنها تريده جيشاً، وأن وحدة المجتمع وصيرورته شعباً إنما تقوم على هذا الأساس.

لقد تحول المجتمع الى جيش بكل طقوس الجيش ومراسمه واحتفالاته ومناسباته، لكن عسكرة المجتمع كانت كل شيء الا ذلك. لقد تحول الجيش أو تحولت الجيوش الى مناسبات ومراسم وطقوس. كان الجيش استراتيجياً المجتمع وهدفه وأفقه، لكن حينما حلّت الساعة في 1967، كانت الهزيمة المجددة، وكان تشتت الجيش وعودته فوق الرمال مشرداً مهزوماً.

بدا واضحاً منذ تلك الساعة أن عسكرة المجتمع لا تعدو أن تكون حفلاً أو احتفالاً. بدا واضحاً أن الدولة العسكرية لا تعني القوة، ولا تعني النصر ولا تعني الصمود. ظهر أن الثورات الحاكمة والمجالس الثورية لا تبني مجتمعات ودولاً قوية.

وظهر بالعكس أن ثمة قطيعة بين الجيوش الحاكمة والشعوب. بدا جلياً أن القشرة العسكرية بقيت طوال فترة حكمها خارجية وبرانية ومنقطعة. لقد أسمت نفسها ثورة وعدت حكمها مجلساً ثورياً لكن الثورة لم تكن غير ذلك.

لم تكن مشروعاً تاريخياً ولا استراتيجياً. لم تكن خطة حكم ولا طريق دولة. كل ما ظهر هو أن الدولة الثورة هي كل شيء إلا دولة وثورة. ظهر أن القشرة الحاكمة هي أبعد من أن تبني دولة أو تدمج شعباً أو تبني مجتمعاً.

ظهر أن الدول الوراثية والحكومات الملكية كانت دون ادعاء ثوري أو شعبي، أرسخ وأعمق جذوراً وأشد صلات وأوثق علاقات وأكثر تواشجاً مع المجتمعات والشعوب. لم تكن هذه النخب برانية ولا منقطعة.

لقد كانت تصون تقاليد وعلاقات أهلية وجذوراً ووشائج تاريخية وسنناً للحكم. ربما لهذا كانت الانتفاضات في البلدان المعسكرة، فقط في البلدان المعسكرة.

هذه الحكومات المعسكرة التي لم تحقق نصراً ولم تبنٍ دولاً وجهت سلاحها الخائب المنهزم الى شعبها. هكذا تبدو الحكومات من هذا النمط "عسكرية على شعوبها"، قادرة على الانتصار فقط على مجتمعاتها.