رسالة الغفران لأبو العلاء المعري.(أرشيف)
رسالة الغفران لأبو العلاء المعري.(أرشيف)
الأربعاء 12 يونيو 2019 / 22:12

رسالة الغفران

ما حكاه المعري في رسالته هو حكاية خيال لا تلتزم ترتيباً تاريخياً أو زمنياً، لنقد النفاق والتسلق الاجتماعي في مجتمعه

لم تكن رسالة الغفران -لأبي العلاء المعري المتوفى في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي- رسالة مؤثرة ولا عظيمة في التراث العربي والإسلامي، بل كانت شبه مندثرة حتى سلط عليها الضوء المستشرقون، مثلما لم تكن "مقدمة ابن خلدون" شيئاً عظيماً بين كتب التاريخ حتى اكتشفها علماء الاجتماع في أوروبا.

أصبحت رسالة الغفران مثار اهتمام عالمي كبير بسبب تشابه بنائها القصصي مع "الكوميديا الإلهية" لـ"دانتي"، وتقاربها مع ملحمة "جون ميلتون" الشعرية المسماة بـ"الفردوس المفقود"، والتي كُتبت في القرن السابع عشر. لا نبالغ إن قلنا أن دانتي هو من قدم معروفاً لرسالة المعري حين أشهرها بعدما كانت مغمورة لا تثير فضول العرب، فضلاً على أن تثير فضول غيرهم.

تحمل رسالة المعري إبداعاً جامحاً يقترب في بعض أشكاله من مرويات الإسراء والمعراج التي لا تخلو من ضعف في أسانيدها، لكن أفكاره في "الغفران" مبعثرة ومُشفرة بحاجز الفصاحة الزائدة عن الحاجة. إذا تحدثنا عن الفلسفة، فإن مؤلف روائي مثل "حي بن يقظان" لابن طفيل أقرب إلى الفلسفة من رسالة "الغفران"، الذي يبالغ البعض في مؤلفها ويضعه في خانة الفلاسفة، وهو لا يمتلك مصنفات فلسفية عميقة كالتي ألفها فلاسفة الإسلام كالفارابي وابن سينا وغيرهم!

انطلق المعري بخياله إلى الجنة والجحيم ليسأل سكّانها عن مسائل أُشكلت على الناس بسبب كلامهم وأشعارهم في العقيدة واللغة والتاريخ، وقد ملأ المعري الجنة ملذات ونعيم قد تعد تعويضاً للحرمان في الدنيا التي رآها وعرفها وعانى منها من خلال جسده الكفيف.

لم يكن موقف العلماء التقليديين من المعري إيجابياً، فأطلقوا على رسالته لقب رسالة الخسران، وجعله ابن الجوزي أحد زنادقة الإسلام الثلاث مع ابن الراوندي وأبوحيان التوحيدي، ورأوا اسلوبه القصصي أسلوب سخرية يختل فيه التوازن بين الفعل والجزاء، حيث فازت بعض الشخصيات التاريخية بالجنة بأبيات من الشعر أو صكوك توبة، وأخدوا على المعري رسمه يوم الحشر في صورة يعلوها الضجيج والصراخ وانشغال الناس بالنقاشات الحادة في مسائل نحوية لا تتناسب مع عِظم المشهد، وسؤال أهل النار عن أبيات من الشعر ويجيبون إجابات بليغة وهم يُعذبون بأشد أنواع العذاب!

ما حكاه المعري في رسالته هو حكاية خيال لا تلتزم ترتيباً تاريخياً أو زمنياً، فكل ما أراده في رده على ابن القارح هو نقد النفاق والتسلق الاجتماعي في مجتمعه عن طريق خلق مواقف ساخرة تحصل في الدار الآخرة.

أما بالنسبة لإلحاد المعري الذي صار موضوع دراسات كثيرة، فإن ظاهر رسالة الغفران يعج بذكر وتبجيل القرآن والأحاديث وأشعار العرب، أما باطنها فيحتمل السخرية المبطنة التي تغلف النقد بغلاف التساؤل والاستفهام، وإذا صح هذا الافتراض فإن المعري أراد هدم كل مفاهيم البعث والحشر والحساب والجنة والنار برسالته هذه، ولعل هذا ما جعل طه حسين يضعه في خانة الشكاكين مرة وفي خانة نافي الثوابت الدينية مرة أخرى، هذا اللغز الذي تركه المعري في رسالته وأشعاره خلق هذه الحالة من التردد بين الباحثين.

أوصى المعري أن يُكتب على قبره:
هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد