الروائي  غابرييل غارسيا ماركيز (أرشيف)
الروائي غابرييل غارسيا ماركيز (أرشيف)
الخميس 13 يونيو 2019 / 20:15

مائة عام من العزلة المدهشة!

الدرس الذي يجب أن نتعلمه جيدًا من تجربة غابرييل غارسيا ماركيز الروائيّة، هي أنّك كي تكون مؤثِّرًا بسردك عالميًا لابدَّ أن تنطلق من المحلية، ولابدَّ أن تحتفي بالتفاصيل اليوميّة العادية

ذكر الناقد الفرنسيّ تزفيتين تودوروف في كتابه المهم"فتح أمريكا ومسألة الآخر" أنَّه عندما حاصر عشرات الآلاف من هنود أمريكا الحمر سفينة كريستوفر كولومبوس بعد تحطمها في جامايكا هدَّدهم بأنَّه سيسرق منهم القمر إذا لم يفكوا حصارهم عن سفينته! لقد كان كولومبوس ضليعًا في علم الأنواء البحرية الذي ورثه عن عرب الأندلس، وكان على معرفة بموعد خسوف القمر. وعندما نفّذ تهديده استسلم أمامه الهنود الحمر، وتوسلوا إليه كي يعيد إليهم إلههم القمر، وفكوا حصارهم عن سفينته: خسروا قارة كاملة في مقابل احتفائهم الأسطوريّ بعودة الإله القمر إليهم! لقد تعمّدتُ إيراد هذه الحادثة التاريخيّة التي ذكرها تودوروف نقلاً عن أرشيف وثائقيّ ضخم خاص بالقارة الأمريكيّة وقدوم الإسبان إليها كي أبين خصوصية هذه القارة العجائبية المدهشة في احتفائها بأساطيرها التأسيسيّة!
خمسون عامًا من التاريخ السرديّ اللاتينيّ العجائبيّ الواقعيّ السحريّ المدهش الذي دشّنه الروائيّ الكولومبيّ العالميّ جابرييل جارسيا ماركيز بروايته "مائة عام من العزلة"، التي حصد بعد كتابتها بخمسة عشر عامًا جائزة نوبل العالميّة للآداب عن مجمل أعماله الروائيّة التي هي الأنموذج الأمثل والأكمل والأكثر إتقانًا لتيار الواقعيّة السحرية عند بعض كتاب أمريكا اللاتينيّة. وتيار الواقعية السحرية الذي ابتكره الناقد الألمانيّ فرانز روه عام 1929 للجمع بين الواقع والفانتازيا وجد تمثيلاته الكبرى لدى كتاب أمريكا اللاتينية بدءًا من خورخي لويس بورخيس وميغيل أنجيل أستورياس ولورا اسكيفيل وغابرييل غارسيا ماركيز إيزابيل الليندي وغيرهم. والمفارقة أنَّه عندما انتهى ماركيز من كتابة روايته "مائة عام من العزلة" في مطلع شهر أغسطس (آب) من عام 1966 لم يكن لديه المال الكافي لإرسال مخطوطتها كاملة بالبريد إلى دار النشر في بوينس آيرس.
دفعت زوجة ماركيز نصف التكلفة فاضطر ماركيز إلى اقتطاع صفحات من المخطوطة كما تقُتطع شرائح اللحم المقدّد، وعندما عاد مع زوجته إلى البيت رهن بعض الأدوات المنزلية كي يتمكن من دفع المبلغ المتبقي! ذكر ماركيز هذه القصة المؤثرة جدًا في سيرته الشخصية "عِشتُ لأروي!". ولم يكن يدر في خلد ماركيز آنذاك أنَّ روايته سيُطبع منها ثلاثون مليون نسخة، وأنها ستُترجم إلى ثلاثين لغة من لغات العالم المختلفة. وأنَّها ستُصنف بوصفها في قائمة المائة رواية المؤثِّرة في تاريخ الرواية العالميّة في القرن العشرين، ومن الروايات التي يجب أن يقرأها الإنسان المثقف قبل أن يموت! هذه رواية تأسيسيّة عالميّة تستحق القراءة وبعمق، وتُصنف بكونها الرواية الثانية في تاريخ السرد المكتوب باللغة الإسبانيّة بعد الرواية الأولى "دون كيخوتي دي لامنتشا" للإسبانيّ ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا التي نشرها على جزأين بين (1605_1615)، وتًعد أول رواية في تاريخ الرواية العالمية.
في سبيعينيات القرن العشرين التفت بعض كتاب أمريكا اللاتينيّة إلى أنَّ عالمية أدبهم تكمن في صدورهم عن تواريخهم المحليّة المعجونة بشغف بالأساطير والخوارق والعجائبيّة، وفي احتفاء رواياتهم بالتفاصيل البسيطة لدى الإنسان في هذه القارة، حتى في احتفائه الاستثنائيّ بكرنفالات الموت، وإقامة موائد على ضوء الشموع تمتدًّ في بيوت القرية كلها كي يسترشد بها الأموات، ويحظوا بوليمة موتهم الفاخرة. إنَّ الزمن في هذه القارة العجائبيّة خارج عن أزمنتنا الفيزيائيّة المحدودة الصارمة، هناك التواريخ التكرارية فما يحدث للجد يتكرّر بالتفاصيل ذاتها عند الحفيد. وعندما اشتغل الأنثروبولوجيّ الفرنسيّ كليفود ليفي شتراوس على التحليل البنيويّ للأسطورة من خلال إيجاد قالب عالميّ لها، استقى نظريته من تحليل مئات من أساطير الهنود الحمر.
إنَّ الجاذبية السردية المؤسّسة على عنصر الشغف في رواية "مائة عام من العزلة" هي كونها تحكي سردياً حياة عشرة عقود (قرن كامل) لسلالة بونديا في القرية المتخيّلة ماكوندو التي تنتهي حياتها من خلال أسطورة قديمة آمنت بها وبعمق أورسولا (زوجة مؤسِّس القرية وعميد آل بونديا). ويتأسّس زمن هذه القرية المتخيّلة على التواريخ التكرارية "فكلما تلاشت الأحداث من ذاكرتنا أعادها الكون لكن في شخصيات وأزمنة مختلفة"، كما جاء في الرواية. لقد استوحى ماركيز حوادث رواياته من مجتمعه الكولومبيّ بخصوصياته الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة المعقدة وبطبيعة زمنه اللاتينيّ الخاص الذي يفترق عن الأزمنة الأخرى لسكان العالم.
إنَّ اسم "ماكوندو" لديه هو مستوحى من اسم مزرعة موز مرَّ عليها غابرييل الصغير(غابيتو) في رحلة من رحلات طفولته ورد اسمها في ثلاث من روايات له بوصفها قرية متخيّلة، وخاصة في روايته الشهيرة "مائة عام من العزلة". وسيعرف غابرييل ماركيز عندما يكبر قليلاً أنَّ هذه الكلمة هي اسم شجرة استوائية تشبه شجرة السيبيا، وأنها لا تنتج أزهارًا ولا ثمارًا، وخشبها الإسفنجيّ ينفع في صنع زوارق الكانوا وفي نحت أدوات مطبخية، كما اكتشف ماركيز فيما بعد، في الموسوعة البريطانيّة أنَّه توجد في تنجانيقا قبيلة الماكوندو makondos الرحّالة.
إنَّ الدرس الذي يجب أن نتعلمه جيدًا من تجربة غابرييل غارسيا ماركيز الروائيّة الممتدة، ومن كتابات "الواقعية السحرية" في أمريكا اللاتينيّة هي أنّك كي تكون مؤثِّرًا بسردك عالميًا لابدَّ أن تنطلق من المحلية، ولابدَّ أن تحتفي بالتفاصيل اليوميّة العادية في حياة الملايين من البشر، ولابدَّ أن تغوص عميقًا في متخيّلهم الذي شكّل شخصياتهم الثقافيّة، وحدّد وعيهم، ولابدَّ أن تلتقط أساطيرهم الثقافيّة التأسيسيّة. لقد التفتت جائزة نوبل للآداب وبعمق في العقود الأخيرة إلى أهمية صدور المبدع في كتابته الإبداعية عن خصوصياته الثقافيّة المحليّة. إنَّ مسحًا ثقافيًا شاملاً يُجرى عن فائزي جائزة نوبل للآداب في العقود الأخيرة سيؤكِّد بشدة ما ذكرته. ولربّما يستفيد الروائيون العرب المعاصرون من دروس أمريكا اللاتينيّة السردية في إنتاج روايات استثنائية بعيدًا عن التكرار الممل في الموضوعات وفي التقنيات السردية، وأستثني من كلامي القلة القليلة المبدعة المؤثرة التي تعمل في صمت بعيدًا عن الضجيج والثرثرة والتسويق الفجّ!