طلاب في ولاية النيل الأزرق بالسودان (أرشيف)
طلاب في ولاية النيل الأزرق بالسودان (أرشيف)
الجمعة 14 يونيو 2019 / 20:50

ثورة العراة

لم يكن ليكتمل مشهد التفاهة المُحررّ بدقة واحترافية إلا برفض هذه المواقع والحسابات لنشر صور نساء "الأنقسنا"، وتهرّبها من تواجدهن بين المُحتجين

مثّلت الأشهر الستة المنصرمة منذ اندلاع الاحتجاجات في السودان "قرصة أذن" تأديبية لنا كعرب، إذ جعلتنا ندرك بأننا لا نكاد نعرف شيئاً عن "أرض النيلين" .. باستثناء أغنية "كده كده يا تريلا"، والصورة النمطية للسوداني المتهم بالساذجة والكسل.

ولكن أعتقد بأنه بات من العدل إعفاؤنا قليلاً من مسؤولية جهلنا، فنحن حتى حين أشرنا إلى السودان خلال الأشهر الستة الماضية بغية التعرّف إليه، بُلينا بإعلام أحمق ينظر إلى أصابعنا.

فقد شهدت الثورة خلال الأيام المنصرمة مشاركة ملحوظة من قبيلة "الأنقسنا" –والتي لم أكن أعرفها، للأمانة-، حيث خرجوا في ولاية النيل الأزرق –والتي لا أستطيع تحديدها على الخريطة، بصراحة شديدة- مطالبين كبقية شرائح المجتمع السوداني بالحكم المدني.

بدت فرصة مثالية لنا لنعرف من هم الانقسنا، وما هي همومهم وتحدياتهم، وكيف يعيشون، وأية عادات ومعتقدات يتوارثونها جيلا بعد جيلا.
كانت هدية الصدف إلينا لنتعرّف على معاناتهم الطويلة كأقلية في ظل هيمنة الثقافة العربية الإسلامية على السودان -بل وحتى على الصورة الراسخة في أذهاننا عن البلد وشعبه-، وعن طموحاتهم في الحكم الذاتي.

أو لنعرف الثمن الذي دفعه مدنيو "الأنقسنا" من انضمام بعض أبناء قبيلتهم إلى "جبهة الثورة السودانية" و"الحركة الشعبية لتحرير السودان"، حيث قاسوا قصف القوات الجوية السودانية، مما فرض على ما يصل إلى 15 ألفاً منهم الحلول كلاجئين في جمهورية جنوب السودان.

إن اللافتات التي رفعها "الأنقسنا" خلال الأيام الماضية للمناداة بالحكم المدني حملت وجهاً آخر خفياً لا يستطيع قراءته إلا العالم الخارجي المنشغل بمراقبة أحداث السودان. لقد كتب على ذلك الوجه بكل ألسنة البشر، "نحن ههنا، وهذه هي قصتنا".

ولكن لخيبة الأمل، فإن جُلّ التركيز الإعلامي العربي على احتجاج "الأنقسنا" جاء لينصبّ على هيئاتهم ومظاهرهم في طرح صبياني مخجل.

"عراة يدخلون على خط الاحتجاجات في السودان"، هو العنوان الذي اختارته عدد من كبريات الصحف والمواقع الإخبارية العربية، منها صحيفة "الشروق" التونسية الرصينة، لتغطية الحدث. تقارير كاملة –حتى من الحسابات الإخبارية في مواقع التواصل الاجتماعي- تفرّغت، لأن "تعيد وتزيد" في كون أفراد القبيلة من الجنسين قد أصروا على الظهور "بنصف أعلى عار من الملابس"، امتثالا لتقاليدهم.

بل إمعاناً في الإضحاك إلى حد البكاء، فإن التقارير اتفقت في تعريفها المقتضب والسطحي بشعب "الأنقسنا" على إرفاق عبارة توضّح بأنهم يشتهرون عموماً "بتعريهم النصفي، وهو أمر معتاد إليهم"، وكأنما تعتذر إلينا مما نراه من فساد وانحلال.

وبالطبع، لم يكن ليكتمل مشهد التفاهة المُحررّ بدقة واحترافية إلا برفض هذه المواقع والحسابات لنشر صور نساء "الأنقسنا"، وتهرّبها من تواجدهن بين المُحتجين، إذ أصبحت أثدائهن "خبراً عاجلاً" يفوق في أهميته تكدّس القتلى والجرحى!

"تسقط بس"، سنرددها في وجه كل صحافة وإعلام يرفضان الارتقاء إلى ثورة العقول والضمائر.