مهجرون فلسطينيون في زمن النكبة (أرشيف)
مهجرون فلسطينيون في زمن النكبة (أرشيف)
الأحد 16 يونيو 2019 / 19:01

"لو" ... التاريخ السياسي والاجتماعي البديل

ينشغل المؤرخون بما جرى، فهو ما يجذبهم، لأنهم معنيون بتحليل الأحداث والوقائع، مؤمنين بأنها وحدها هي الجديرة بأن تقع، وأن الذين كانوا يتوهمون مساراً آخر، ما هم إلا مجموعة من المثاليين، أو المحبطين، أو المهزومين، الذين لا يدركون أن ما جرى قد وقع، لأن غيره ما كان له أن يتم، وأن كلمة "لو" لا مكان لها في التاريخ السياسي، إلا لدى أولئك الذين يتوهمون، طيلة الوقت أنه كان بالإمكان أن تمضي الأمور في طرق أخرى.

التفكير فيما مضى، وما كان يجب عليها أن تفعله، هو أمر مهم لتجنب أخطاء الماضي إن وجدت، عبر الإلمام بالأسباب التي أدت إلى هذه الأخطاء

لكن هل يخلو حديث الذين يتصورون أن التاريخ كان بوسعه أن يمضي في مسار مختلف من منطق؟ وهل كان كلامهم محض تصور عند أولئك الذين لم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم في الواقع المعيش فلجأوا إلى مسار من صنع خيالهم؟

ابتداءً فإن صنع المسارات البديلة عمل مفيد في ما نواجهه الآن وهنا، في أي زمان وأي مكان، دون استثناء. فكل الأمم، كبرت أم صغرت، في حاجة ماسة إلى تحديد الخيارات التي عليها أن تسلكها، ودراستها جيداً.

نعم، جميعها منشغلة بما عليها أن تفعله حيال المستقبل، لكن التفكير فيما مضى، وما كان يجب عليها أن تفعله، هو أمر مهم لتجنب أخطاء الماضي إن وجدت، عبر الإلمام بالأسباب التي أدت إلى هذه الأخطاء، والتي بوسعنا أن نحددها ونعددها،  حتى ولو في إطار التفسير والتبرير، بعد أن وقفنا عاجزين عن تحديدها، لسبب بسيط هو أننا كنا نفكر دوماً فيما يسعنا إمساكه بأيدينا، أو تحديد مساراته ولو بطريقة ذهنية مجردة، لكن أحداً لم يفكر ملياً في المسار المخفي، الذي يجيب على سؤال افتراضي هو، ماذا كان يمكن أن يحدث، لو لم يجر ما وقع؟

يبدو هذا أمراً مضحكاً بالنسبة للمؤرخين الذين يلهثون دوماً وراء المستندات، والشهاداتن والوثائق، ولا يقرون أو يعترفون إلا بها، لكن هناك من بوسعهم التساؤل، دون مجافاة للتاريخ أو العلم، ماذا لو لم يحدث ما جرى، أي لم يقع ما سار فيه التاريخ، حين سجلته الوقائع والتفاصيل اليومية لتصرفات القوى السياسية والاجتماعية، والتي توزعت ما بين تصريحات وتعليقات وبيانات ومنشورات ومقالات، كانت مجرد تعبير لفظي عن تحركات؟

لم يعد هذا سؤالاً افتراضياً في ظل حالتين تسيطران على نسبة لا يستهان بها من الناس هما، أن الأمور كان من الممكن أن تمضي في طريق أفضل، والثاني أن هناك من تسبب في ألا تجري الأحداث على طبيعتها، ما أدى إلى عرقلة إتمام التاريخ كما ينبغي له أن يكون.

إن هذين الطرفين يفكران في فراغ التاريخ أو على الأقل هوامشه المنسية. فهناك وجهة نظر يقول أصحابها إن ما تم ليس من المستطاع أن يقع غيره، ولو كان هذا ممكناً ما وقع ما جرى، وأن الذين يطرحون احتمال "لو" في التاريخ هم مجرد سكارى، أو مغيبين، أو مغرضين، أو هاربين من مواجهة الواقع الذي حدث، وقد مضى على هذا الدرب، وليس أمامهم من سبيل سوى الجلوس على قارعة الأيام، طارحين السؤال الذي بوسعهم أن يقدموا إجابة شافية كافية عليه وهو، ماذا لو لم يقع ما يراه أغلب المتعجلين ضرورة أو صيرورة طبيعية؟

إنه سؤال فارق في تاريخ الإنسانية، المستسلم بكليته إلى ما يراه امتلاء بما ورد في الوثائق والتصورات، التي سجلت كل شيء، التصريحات التي تترجم المواقف، والاتجاهات، والتصرفات التي حدثت في الواقع، ولا مجال لردها إلى صوابها، لأنها ببساطة قد وقعت، ومردودها على الواقع تم ولا مرد له.

إن هذا صحيح في شكله العام المستمرئ أو المعتاد، أما غير ذلك فهو ذلك الذي يفرض علينا أن نجيب على أسئلة من قبيل، ماذا لو لم يجتح صدام حسين الكويت في 2 أغسطس (آب) 1990، وماذا لو انتصر الألمان في الحرب العالمية الثانية؟ وماذا لم تقع نكبة فلسطين في 1948؟، وقبلها، ماذا لو لم يقض المسيحيون على الديانات التي كانت قائمة في مصر القديمة؟ ويمكننا هنا طرح كل سؤال شبيه، أو نظير، أو قريب من هذا.

إن هذه التساؤلات برمتها لا تمس سوى الفراغ السياسي، الذي لا يريد أحد أن يفكر فيه كاحتمال، لأن الجميع استسلم للمسار القدري للتاريخ، واعتبره ما ينبغي أن يكون، وهو الخطأ بعينه، فيمكننا أن نقر بأن ما جرى، تم بالفعل تحت وطأة أسباب عديدة، وقد نجد أنه من غير المستساغ أو المفيد أن نفكر في احتمال آخر، لأن هذا الاحتمال لو كانت تقف وراءه قوة اجتماعية وسياسية حقيقة ما كان يمكن لغيره أن يقع.

إن التفكير فيما لم يقع، ليس محض تحسر، أو بكاء على الأطلال، لكنه محاولة للإحاطة بشيء اسمه "الفراغ السياسي"، فالامتلاء، أي عكسه، هو ما وقع بالفعل، وتعامل أغلب الناس معه على أنه أمر واقع، لا فكاك منه، ولا إمكانية للهروب بعيداً عنه، ولذلك نظروا إليه باعتباره الوقائع التي مرت في حياة الأمم، وسجله المؤرخون على أنه التاريخ الذي لم يقع غيره، ولو أمكن لغيره أن يقع لكان له ما أراد، ولسجل المؤرخون شيئاً آخر.

قد تكون هذه حقيقة إن استجبنا لشروط الواقع المادية التي تفرض نفسها بلا جدال، لكن ليس بوسعنا أن نكبت رأي أولئك الذين يقولون طيلة الوقت إنه كان بالإمكان أن يقع غير الذي يجري، لولا التآمر والخسة، والخيانة، والتقاعس، واللهاث وراء المكاسب المادية السريعة.

وبغض النظر عن مدى مصداقية أصحاب الرأي الذي لا يقر بشيء سوى ما جرى، متحيزين لما يسمى بالواقعية السياسية، فإنه ليس بوسعهم أن يقدروا طيلة الوقت على ملء الفراغ الذي وقع، جراء سؤال لم يفكروا يوماً في الإجابة عليه وهو، ما المسار الذي كان يمكن للأمور أن تمضي فيه، لو لم يقع ما جرى بالفعل؟

لم يعد هذا سؤالاً افتراضياً بالفعل، فكثير من السجال الذي كان مكبوتاً في الماضي، لأنه لم يجد وسائل طيعة للتعبير عن نفسه، صار الآن متاحاً للكل، عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي كشفت لنا أن قطاعاً لا يستهان به من الجمهور، يفكر فيما كان يمكن أن يقع، لو سار التاريخ في درب آخر، وهو تفكير ما كان ليتم إذا لم يكن المسار الذي مضت وفقه الأشياء والوقائع والأحداث، قد تعثر في رأي الناس، فهؤلا لو تمكنوا من ملء الفراغات التي تصنعها أسئلة الناس واحتياجاتهم في آن، ما كان يمكن أن يفكروا أبدا في المسارات الأخرى، التي يعتقدون أنها هي التي كان ينبغي له أن يكون، أو أنها هي المسارات التي لو وعاها الساسة والمفكرون والخبراء المحيطون به، أو الناصحون لصناع القرار، لكان بوسع التاريخ أن يمضي في طريق آخر.

إن أولئك الذين يتشدقون دوماً بأن التاريخ كان بوسعه أن يكون غير ما كان، ليسوا سوى أولئك المنشغلين بالفراع السياسي، لأن أكثر ما يهتم به الناس من التاريخ وتأثيره ذو طابع سياسي، لأنه يولد بالأساس في سياق صراع سياسي محتدم، يقول فيه فريق، إن ما جرى هو الأحسن، ويقول آخر، إن التاريخ خان الذين كان بوسعهم أن يصنعوا حياة أبهى.

هذا الأمر يعني بوضوح أن التفكير فيما لم يحدث لا يقل أهمية عن التفكير فيما حدث، فربما يعلم التفكير في المفترض أو حتى المستحيل أصحابه، أنه كان بوسعهم أن يصنعوا مساراً أفضل.