نصب الجندي المجهول في شارع عمر المختار  بغزة قبل تدميره (أرشيف)
نصب الجندي المجهول في شارع عمر المختار بغزة قبل تدميره (أرشيف)
الأحد 16 يونيو 2019 / 18:50

قبل 12 عاماً على الشاطئ في غزة..

في مثل هذه الأيام، قبل اثني عشر عاماً، اقتحم مسلحون من حماس "المنتدى"، ذلك النادي البحري الصغير، على شاطئ البحر في مدينة غزة، الذي كان رمزاً للسلطة الفلسطينية منذ إنشائها في 1994 حين اتخذه الراحل ياسر عرفات مقراً رسمياً، وأدار منه شؤونها، ولم تتغير قيمته الرمزية، ومكانته الإدارية، والسياسية بعد رحيله، وصعود الرئيس محمود عباس إلى رئاسة السلطة.

في تدمير نصب الجندي المجهول، وإعادة تصميمه ككتلة خرساء بلا ملامح، ما يُعبّر عن إعلان وتكريس الانتصار الأيديولوجي على الحركة الوطنية، نفسها

وفي هذا السياق، كان اقتحام مسلحين من حماس، يضعون أقنعة على وجوههم، "للمنتدى" تتويجاً للانقلاب على السلطة، وطردها من قطاع غزة، والاستيلاء عليه، بعد اشتباكات دامية قتلت وجرحت المئات، ناهيك عن اقتحام ونهب كل المقرات الرسمية لمؤسسات السلطة، وعشرات البيوت السكنية، وشن حملة اعتقالات واسعة، وإعدام أشخاص وقعوا في قبضة حماس، بلا تحقيق ولا محاكمة.

وثقت عدسة الكاميرا، في الزمان والمكان، الاستيلاء على "المنتدى" في مشاهد داس فيها المسلحون المُقنعون بأقدامهم صور الرئيسين عرفات وعباس المتناثرة على الأرض، والتقطوا لأنفسهم صوراً تذكارية جلوساً على مقاعد، ووراء مكاتب، شغلها قادة السلطة من قبل.

ولعل أبلغ ما رصدته عدسة الكاميرا من دلالات، ورسخ في الذاكرة الجمعية، تتويج الانقلاب على السلطة، رمزياً أيضاً، بتدمير النصب التذكاري للجندي المجهول، في شارع عمر المختار، الشارع الرئيس في مدينة غزة، الذي يُعتبر جزءاً من الهوية والذاكرة الوطنية للمدينة.

وفي الهوية، كما الذاكرة، ما يتنافى مع القناعات الأيديولوجية للإسلام السياسي وتنظيماته وميلشياته.

يعود تاريخ النصب إلى 1957، وأُقيم في الحديقة المقابلة لمبنى المجلس التشريعي، ونسفه الإسرائيليون بعد احتلال غزة في 1967، ثم شيدته السلطة الفلسطينية بعد قيامها، وقصفه الإسرائيليون بعدها، وأُعيد ترميمه.

والمفارقة أن بلدية غزة أعادت بناء النصب، في عهد حماس، وبدل مجسم الجندي الذي يحمل رشاشاً، ويشير بسلاحه ويده في اتجاه القدس، وضعت مكانه كتلة خرسانية مربعة الأضلاع.

وبهذا المعنى، إذا كان في دوس صور الرئيسين عرفات وعباس ما يُعبر عن انتصارها السياسي والعسكري، في الميدان، على الحركة الوطنية، فإن في تدمير نصب الجندي المجهول، وإعادة تصميمه كتلةً خرساء بلا ملامح، ما يُعبر عن إعلان وتكريس الانتصار الأيديولوجي على الحركة الوطنية، نفسها.

ففي كل فعل على الأرض ما يوازيه، وينبثق عنه، من دلالات رمزية في عالم السياسة والأيديولوجيا.

كان في كل ما تقدم ما يُمثل البطانة الحقيقية للاستيلاء على القطاع بالقوة المسلّحة، وطرد السلطة الفلسطينية. ومع ذلك، أطلق الناطقون باسم حماس تسمية "الحسم" على العملية الانقلابية، بل ووثقوها في "كتاب أبيض"، وفسروها كخطوة استباقية لإجهاض انقلاب مضاد من جانب الأجهزة الأمنية للسلطة، ولكنهم لم يقدموا دليلاً واحداً، يُعتد به، على وجود المؤامرة الوهمية.

ومما له دلالة خاصة، في هذا الشأن، أن كلمة "الحسم" سقطت من قاموسهم السياسي بعد وقت قصير، وحلت محلها كلمة "الانقسام"، التي ما زالت قيد التداول حتى الآن.

لا تدخل المفردات خطاب السياسة لهذه الجماعة، أو تلك، أو تخرج منه، بالصدفة بل لتكريس أو إخفاء دلالات بعينها. لذا، كان تعبير "الحسم" وثيق الصلة في الأيام الأولى للانقلاب بفرضية المؤامرة الوهمية، التي تعذر التدليل على وجودها في وقت لاحق.

وهذا، بدوره، استدعى الاستغناء عنه وتوظيف كلمة "الانقسام"، التي تبدو حيادية، وتقع فيها مسؤولية الانقلاب على عاتق طرفين أو أكثر، بدل وقوعها على عاتق حماس.

ومع ذلك، وبصرف النظر عن فوضى الدلالات، وما تنطوي عليه من تشويه للواقع، فإن ما لا ينبغي تجاهله يتجلى في حقيقة أن الانقلاب أصاب السلطة بالشلل، وربما في مقتل، وعطل بلورة آليات وتقاليد ديمقراطية حقيقية في الحقل السياسي الفلسطيني، وكان وسيلة إيضاح لمعنى انخراط قوى تتبنى أيديولوجيا الإسلام السياسي، في اللعبة الديمقراطية.

كان في وسيلة الإيضاح تلك ما يتجاوز الحالة الفلسطينية نفسها، وهذا ما ستتضح أبعاده بعد سنوات، خاصةً في ظل موجة "الربيع العربي"، وما أعقبها من صعود لقوى الإسلام السياسي في أكثر من مكان، وما نجم عنه من الاحتراب الأهلي، والميليشيات العابرة للحدود، وتفريغ للسياسة من مضامينها الوطنية، وأبعادها الاجتماعية.

وهذه دلالة جديدة ينبغي أن تُضاف اليوم، بأثر رجعي، إلى حقيقة ما حدث في مثل هذه الأيام قبل اثني عشر عاماً على شاطئ البحر في غزة.