جنازة البطريرك الماروني السابق الكاردينال مارنصر الله بطرس صفير (أرشيف)
جنازة البطريرك الماروني السابق الكاردينال مارنصر الله بطرس صفير (أرشيف)
الإثنين 17 يونيو 2019 / 20:24

رحيل الكاردينال

في التاسعة والتسعين وقبل أيام من بلوغه المئة، فارق البطريرك صفير، الزعيم الروحي للموارنة اللبنانيين الحياة.

انت عودة الى لبنان المدني، وكانت عودة الى المؤسسة التأسيسية التي أقام المسيحيون عليها الدولة. كانت نوعاً من مجتمع مدني استُنهض بكامله وهذه المرة بقيادة مسيحية وبتباه مسيحي

لم يكن الحدث في رمزيته وفي واقعه عادياً أو عارضاً، فالبطريرك الذي كان من أمراء الكنيسة "كاردينال" ليس مجرد شخص عادي، لا في رتبته ولا مقامه ولا شخصيته.

يمكن القول إنه كان خلال الحرب الأهلية وبعدها، زعيم الموارنة، وموضع إجماعهم، وقائدهم الروحي والمدني، لذا كان غيابه، ولو في هذا العمر المتقدم حدثاً تاريخياً، ومناسبة لإظهار الاجتماع المسيحي اللبناني في قمة انضباطه وسلوكه المدني وتميزه الحضاري.

كانت جنازة البطريرك التي اخترقت لبنان حتى وصلت الى بكركي نوعاً من مراجعة مسيحية وارتداداً على المرحلة السابقة وعودة، إلى الامتياز المسيحي وإلى الصدارة اللبنانية، فلبنان دون البلاد العربية كلها ليس بلداً إسلامياً، وإن يكن أكثر من نصفه مسلمين. إلا أن لبنان كان هبة المسيحيين وكان هكذا من صنعة المسيحيين.

لنقل إن الثقافة اللبنانية والتي هي ركن في الثقافة العربية، كانت دون شك صناعة المسيحيين، وقد غرس المسيحيون فيها وأغنوها بصلتهم بالغرب التي تجعل من الثقافة المحلية انعكاساً غربياً، كما أنهم أغنوها بالعودة إلى الإنجيل، ناهيك عن رفدهم إياها بالميراث السياسي الغربي الذي لم تكن الديمقراطية اللبنانية أثره الوحيد.

ليست الديمقراطية وحدها ولكن مبدأ الدولة وسيطرة القانون، إلى ذلك لم تكن هذه الدولة التي أسسها المسيحيون مسيحيةً إلا بمقدار، فقد كانت دولة متعددة وضمت تحت سقفها جماعات اللبنانية وبخاصة الجناحين الإسلامي، والمسيحي بتنويعاتهما. ذلك كله لم يحل دون قيام حرب أهلية تواجه فيها المسلمون وحلفاؤهم، والمسيحيون وحلفاؤهم، وتوزع فيها المسيحيون وتعددوا فكان لا بد من مركز موجه وقيادي ومدني في ذات الوقت، أي أن مهمة كهذه وقعت على كاهل البطريرك الذي تحمل كثيراً من مناكفات الفرق المسيحية التي اعترضت على مقامه القيادي.

لم تكن بكركي محاربة، ولأول وهلة لم يطق المحاربون وجودها، لكن البطريرك كان في مستوى مقامه.

لقد كانت الحاجة للجناح المدني المسيحي في الحرب تزداد، كلما لقي المسيحيون الهزيمة العسكرية، أو كادوها، وكلما بدا أن مهمتهم المدنية هي التعويض الأول عن الانهزام العسكري. لقد انهزم المسيحيون نسبياً في الحرب، لكن هذا أعادهم إلى مهمتهم المدنية الأولى، تأسيس مجتمع وتأسيس دولة.

كانت الدولة كمبدأ والدستور كميثاق عودة إلى العمل التأسيسي الذي قام على عاتق المسيحيين. ورغم كل شيء لا يزال هذا العمل التأسيسي جارياً، بل تبدو العودة إليه ضرورة ماسة، خاصةً حين يُسيطر سلاح ليس للدولة، وحين تغدو الدولة نفسها متداعية منقوصة وذات يد فوق يدها.

لذا كانت جنازة البطريرك حدثاً بحد ذاته، كانت عودة إلى لبنان المدني، وكانت عودة إلى المؤسسة التأسيسية التي أقام المسيحيون عليها الدولة. كانت نوعاً من مجتمع مدني استُنهض بكامله، وهذه المرة بقيادة مسيحية وبتباهٍ مسيحي.

كان فرصة المسيحيين للعودة التأسيسية للدولة والمجتمع. لذا انحنى المجتمع اللبناني بكامله للقرار المسيحي والتدابير المسيحية. لم يكن السلاح هذه المرة حاسماً، كان واضحاً أن المدنية والدولة المدنية هما الأساس.

لقد أراد المسيحيون الخاسرون على دفعات والذين كانت الفترة الأخيرة حقبة خسارة لهم، أراد المسيحيون، أن يروا أن الأمر ليس بالسلاح، وأن الثقافة، والقانون، والانضباط عناصر توازي السلاح، بل بدا أن السلاح في هذه اللحظة انحنى أو كاد، بل ظهر أن دوره يتقلص ولم يعد طاغياً على الجو.

لقد وُجد المجتمع المدني في الساحات واستقبلت الجنازة في كل مكان، وبدا أن رحيل رجل دين في مقام صفير يشكل تحدياً للجناح العسكري. بدا أن السلاح لم يكن كل شيء، وأن في الامكان تجاوزه أو الحلم ببناء دولة وقانون خارجه.