مقر جامعة الدول العربية في القاهرة (أرشيف)
مقر جامعة الدول العربية في القاهرة (أرشيف)
الإثنين 17 يونيو 2019 / 21:07

الجامعة العربية متحفنا القومي

رغم حداثة بنائه، يبدو مقر جامعة الدول العربية في القاهرة كأنه مبنىً أثري يرمز إلى نظام قديم ساد في المنطقة، ثم باد بفعل الاستهداف الخارجي والنخر الداخلي. يبدو المبنى أيضاً كأنه متحف يؤمه الزائرون المعنيون بدراسة التحولات في التاريخ العربي الحديث.

ي تاريخنا الحديث ليس لدينا غير إرث الهزيمة، ولا أظن أن هذا الإرث يوجب التجسيد في المتاحف

زرت الكثير من المتاحف الشبيهة، ورأيت في الكرملين ما تبقى من أثر للحقبة الشيوعية التي تحنطت في ضريح لينين، ولم يبق من تلك الحقبة غير اللون الأحمر الذي يلمع تحت شمس موسكو الخجولة على مباني مقر الحكم.

وفي إسطنبول، رأيت ما تبقى من إرث مادي لكمال أتاتورك باني تركيا الحديثة، الذي لم يبق له في عهد أردوغان غير صور معلقة على أسوار قصره القديم.

في لندن زرت متحفاً للحرب العالمية الثانية، ولم أعثر على صورة واحدة لصانع النصر البريطاني في تلك الحرب ونستون تشرشل، بل إن الإنجليز لا يفخرون كثيراً بذلك النصر، ويفضلون اعتبار ألمانيا شريكاً أوروبياً بدلاً من استذكار ويلات القصف النازي لمصانعهم، وشوارعهم، ومدارسهم، ومنازلهم في لندن، وكوفنتري، وبيرمنغهام، ومانشستر.

وما كان لوجود هذا المتحف أي مبرر، من وجهة النظر البريطانية، غير جذب السائحين وتوفير بعض التسلية للزوار في العروض الخاصة التي توظف فيها تكنولوجيا المرئيات والصوتيات لخلق واقع وهمي للحرب. أما الحرب ذاتها، فلا تُذكر بها غير مقابر القتلى التي زرت إحداها في كوفنتري، ورأيت أرقاماً بدل الأسماء على شواهد الكثير من القبور.

بالطبع، تختلف هذه المتاحف عن المتحف المتوقع للنظام العربي في مبنى "الجامعة"، فليس لدينا ثورات توحد الشعوب العربية، وتجعلها قوة عظمى تتحدى الغرب، وتخوض معه حرباً باردة، أو حتى مثلجة، ولم تكن لدينا امبراطورية تحكم نصف العالم، ولا جيشاً "عصملي" أو "عربلي" يغزو البلاد ويخضعها بالقوة. في الواقع ليست لدينا القدرة على حكم أنفسنا، ولا نستطيع حتى الدفاع عن مدننا دون الاستعانة بمظلات عسكرية دولية.

في تاريخنا الحديث ليس لدينا غير إرث الهزيمة، ولا أظن أن هذا الإرث يوجب التجسيد في المتاحف.

لكن مبنى "الجامعة" يظل مرشحاً للتحول إلى متحف من نوع آخر يجسد عبقرية ترويج الوهم بوجود نظام يحكم أمة، رغم السقوط الواقعي لهذا الافتراض النظري، فالنظام الرسمي العربي الذي يعقد المؤتمرات، والقمم، ويصيغ مواثيق ومعاهدات العمل المشترك و"الدفاع المشترك"، يجهد في الحفاظ على بقائه النظري بعد أن تعطلت آلياته وتلقى ضربات موجعة كان بعضها قاتلاً، كما في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، وقبل ذلك فلسطين.

والجامعة العربية التي تحترف عقد المؤتمرات وتضم خيرة المتحدثين الدبلوماسيين الذين يتحدثون كثيراً ولا يقولون شيئاً، تحتار في تحديد من يمثل سوريا، هل هو النظام أم المعارضة "المعتدلة"، ومن يمثل ليبيا، هل هي الحكومة أم الجيش، أم القبائل أم الميليشيات، ومن يمثل العراق هل هي الحكومة "الشيعية" أم المعارضة "السنية" أم الرئاسة "الكردية"، ومن يمثل لبنان هل هو رئيس الدولة، أم رئيس الحكومة!!

في الواقع تعرف الجامعة أن كل هؤلاء لا يمثلون كيانات تملك قرارها، فقد خضع جزء كبير من الشرق العربي في العراق، وسوريا لحكم الدواعش، والقاعديين لسنوات، وسقطت عاصمة اليمن في يد الحوثيين، واستبدل لبنان ريادته الحضارية بحكم الطوائف، وترسخ احتلال اليهود لقلب الأمة في فلسطين، وتقدمت مجلة "تشارلي ابدو" الفرنسية الهزلية على إسرائيل في قائمة أعداء الأمة بالنسبة لحماة الظلام.

متحف النظام الرسمي العربي يختلف عن متاحف موسكو، وإسطنبول، ولندن، لكنه قد يكون نسخة من متحف انجليزي زرته قبل سنين.. اسمه متحف الشمع.