المفكر والناقد الإنجليزي تيري إيغلتون (أرشيف)
المفكر والناقد الإنجليزي تيري إيغلتون (أرشيف)
الأربعاء 19 يونيو 2019 / 20:30

الديمقراطية والإرهاب المقدس

يؤكد الغرب دائماً، نحن نحيا في مجتمعات ديمقراطية، ويبدو أن تكرار إعلان الحياة في مجتمعات ديمقراطية، يعكس أن هناك مجتمعات أخرى غير ديمقراطية، وعلى هذه المجتمعات إما أن تُغير طريقة حياتها غير الديمقراطية، أو أن تستعين بآخر لديه الخبرة في إنجاز التغيير، ومن البديهي أن تلك المجتمعات غير الديمقراطية هي المجتمعات الشرقية.

إن واحداً من أشد أخطاء ما بعد الحداثة فداحةً، هو نسيانها، أن ما هو هجين، وتعددي وتجاوزي، يكون عند مستوى معين، إرهاباً مقدساً، مقترناً بالرأسمالية

ماذا يحدث لو تجاهل الشرق إعلان الديمقراطية الطاووسي المعجباني؟ سيخرج الغرب ثانية ويعلن، نحن نحيا في مجتمعات ديموقراطية.

وصلت الرسالة. يقوم الشرق بتغيير ما نحو الديمقراطية. يخرج الغرب مرة ثالثة، ويعلن بنبرة أكثر ضيقاً، نحن نحيا في مجتمعات ديمقراطية. يعرف الشرق أن لا مفر من أن يأتي الغرب إلى مجتمعاته الشرقية، ومعه قواعد الديمقراطية.

لكن دولة الشرق القديمة لها قواعد أوليغاركية، والأوليغاركية، هي حكم أقلية، والديمقراطية حكم أغلبية.

ولو حاول الشرقي الدفاع عن هدم دولته وإزالتها، بأن كل دولة بشكل ما هي دولة أوليغاركية، وأن المعيار هو ما تسمح به الدولة من مجال للديمقراطية، وليس هناك تعارض في الجمع بين الأوليغاركية والديمقراطية.

يرد الغربي على مُحاولَة وقوف الشرقي في وجه الهدم والإزالة، بأن الديمقراطية تريد أن تتحكم هي في القدر الذي تسمح فيه بوجود الدولة، فاستبداد الحريات الصغرى له أولوية في قواعد الديمقراطية، حرية الأقليات، حرية القاعدة، وداعش، وبوكو حرام. إن استبداد الحريات هو الوقود المستعر للديمقراطيات الحديثة.

يحكي تيري إيغلتون في كتابه "الإرهاب المقدس"، حكاية من رواية كونراد "العميل السري"، يحث فيها السيد فلاديمير شخصية فرلوك على عمل إرهابي وحشي، لا يكون مخيفاً فحسب، بل يكون عبثياً أيضاً، فهو يقول له إن الاعتداء بقنبلة الآن، لا بد أن يتجاوز نية الانتقام، أو الإرهاب، بل لا بد له أن يكون تدميراً صرفاً غير قابل للشرح والتفسير.

وهكذا فإن فلاديمير لا يقترح تفجير مسرح، أو مطعم، بل تفجير مرصد غرينتش الملكي، جنوب غرب لندن، وهو يعتقد بفعل ذلك أنه سيؤكد إرهابه الرمزي، أو التعبيري، وهو يتحدث أيضاً باحتقار عن المرصد الملكي، رمز الإيمان الصنمي بالعلم لدى الطبقة المتوسطة.

وهنا يأتي تعليق تيري إيغلتون القوي الذي ينال من أفكار فلاديمير، وبالتالي من أفكار كونراد. فإذا كان فلاديمير يريد عملاً إرهابياً رمزياً غير قابل للتفسير، فلماذا لا يُفجر مرحاضاً عاماً، وكأن إيغلتون يقول لكونراد: "ومع هذا يبدو أن تفجير مرصد غرينتش الملكي، أسهل روائياً، وأقل جرأة من تفجير مرحاض عام".

يرى هيغل أن التناقض الداخلي بين النظام والفوضى، يُمكن حله حين نضعه في صيغة منطقية. أولاً، في البدء تصرفت الطبقة الوسطى الثورية بحرية وحشية، وبعد ذلك استيقظ المجتمع من صداعه الثوري، ومارس حريته بمسؤولية أكبر.

لكن هيغل هنا كما يرى إيغلتون، يتحدث عن بعدين من الحرية البرجوازية، وليس عن طورين تاريخيين.

فالتأثيرات السيئة للعنف الثوري لن تُمحى أبداً برمتها، ولكنها ستظهر بين وقت وآخر، في شكل عصاب اجتماعي، أو إرهاب سياسي.

ينبغي على الطبقة الوسطى إذا التحول من عصابات إلى موظفين، وهذا تغير خطير بنحو مؤكد، لأن هناك عنصراً ضمنياً مضاداً للمجتمع داخل الحرية التي تعززها هذه الطبقة، فقد كان ممثلوها أبطالاً، وهم الآن موظفون، وهكذا أفسحت الدراما الملحمية المجال للواقعية الرزينة، بحيث أن شخصيات متفاخرة متهورة من المحاربين، تحولت إلى كتيبة لا لون لها من الموظفين.

تيري إيغلتون في ثوب شهرزاد. حكاية لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر. كان يا ما كان في سالف عصر الرأسمالية الليبرالية الكلاسيكية، كان لا يزال يُعتقَد أن من الممكن، والضروري، أن تسوغ أفعالك كبرجوازي صالح عن طريق حجج عقلانية معينة ذات أسس كونية، وكان لا يزال ثمة معايير معينة ومشتركة للوصف والتقويم، يمكنك من خلالها أن تستخلص بعض المبررات المقنعة، تبرر بها سلوكك.

ومع تطور النظام الرأسمالي، ومع استعماره شعوباً جديدة، واستيراده جماعات إثنية جديدة إلى أسواق عمله، وحثه على مزيد من تقسيم العمل، واكتشافه ضرورة توسيع حرياته، لتطول جماهير جديدة من الناخبين، فإنه يبدأ بتقويض عقلانيته الكونية بصورة لا مفر منها.

ذلك أن من الصعب غض الطرف عن أن هناك الآن صفاً كاملاً من الثقافات واللغات، وطرائق الحياة المنافسة، والتي كانت طبيعة الرأسمالية ذاتها قد ساعدت في تكونها، بما في ذلك الميل إلى التهجين، والتجاوز، والاختلاط.

إن واحداً من أشد أخطاء ما بعد الحداثة فداحةً، هو نسيانها، أن ما هو هجين، وتعددي وتجاوزي، يكون عند مستوى معين، إرهاباً مقدساً، مقترناً بالرأسمالية، وبصورة طبيعية، مثل اقتران لوريل وهاردي، فريد أستير وجينجر، الإخوة ماركس، في السينما، وهكذا كان على النظام أن يختار بين أن يواصل الإلحاح على الطابع الكوني لعقلانيته، في وجه أدلة معاكسة قوية، أو أن يستسلم ويصبح نسبياً مُعترفاً بعبوس، أو ببشاشة، أنه غير قادر على أن يجد أي أسس جوهرية، يُشرّع نشاطاته من خلالها.