رئيس بلدية اسطنبول المنتخب أكرم إمام أوغلو يحيي مناصريه.(أف ب)
رئيس بلدية اسطنبول المنتخب أكرم إمام أوغلو يحيي مناصريه.(أف ب)
الإثنين 24 يونيو 2019 / 19:51

درس اسطنبول.. إما رئاسة الجماعة أو رئاسة الدولة

أكدت النتائج أيضاً استحالة اختصار الدولة في شخص الرئيس، وجاء التصويت على العكس من هواه

أكدت نتائج إعادة انتخابات بلدية اسطنبول أن الأتراك قرروا الخروج من حالة الالتباس والتماهي غير الطبيعي بين الحزب والدولة، واختاروا فك الارتباط بين هوية الدولة وسطوة الحزب الحاكم الذي حاول تسويق الوهم بقدرته على أخونة المجتمع التركي برمته، بينما كان طيلة السنوات الماضية يعمل على تسخير كل مقدرات الجمهورية لخدمة ناخبيه فقط، أو "الأهل والعشيرة" الإخوانية التي بدأ نفوذها بالانحسار في المدن الكبرى.

أكدت النتائج أيضاً استحالة اختصار الدولة في شخص الرئيس، وجاء التصويت على العكس من هواه، وتحدى الأتراك تبني أردوغان المعلن لمرشح الحزب الإخواني الحاكم في انتخابات البلدية الأهم في كل تركيا وصوتوا لمرشح المعارضة في رسالة واضحة تؤكد قدرة الناخبين على الفصل بين الدولة والجماعة.
اعترف أردوغان بسقوط مرشحه لرئاسة بلدية اسطنبول بن علي يلدريم واعترف أيضاً بفوز مرشح المعارضة إمام أوغلو بعدما كان رفض ذات النتيجة في الانتخابات الأولى، وعمل جاهداً على إعادة الاقتراع أملاً في قلب النتيجة.

هذا درس تركي جديد يرفض المتأخونون الاستفادة منه، مثلما رفضوا الاستفادة قبل ذلك من الدرس المصري الذي سبقه، حين اختار الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي أن يكون رئيساً للجماعة بدلاً من أن يكون رئيساً لكل المصريين، واستبدل الشعب بالعزوة، فكانت النتيجة أن هبّ الشعب ليعزله.
وهناك درس آخر في غزة التي يعيش فيها قرابة مليوني فلسطيني تحت رحمة حركة إخوانية المنبت، لم تستطع الفكاك من إخوانيتها رغم فشلها في أخونة المجتمع الغزي.

لقد وصلت حركة حماس إلى حالة من بؤس الحكم تبدو تجلياتها واضحة في القطاع المنكوب، حيث تنعدم فرص الحياة وينعدم الأمل. لكن الحركة، رغم هذا البؤس، لا تزال تعلي انحيازها للجماعة وعناصرها على الالتزام بالقيم الوطنية، ولا تزال ترفض الاعتراف بأن الدين لله والوطن للجميع، ورغم خطابها المعلن بالتمسك بالوحدة الوطنية فإنها تؤسس، بالتواطؤ مع شريكها في الانقسام في سلطة رام الله، لترسيخ حالة الشذوذ التاريخي من خلال تحويل الانقسام إلى أمر واقع على الفلسطينيين أن يتعايشوا معه، حتى وإن لم يقبلوه.

محصلة القول إن تجارب الجمع بين قيادة الجماعة وقيادة الدولة أثبتت فشل هذا الجمع القسري، واستحالة التماهي بين شعب كامل وحزب واحد، حتى لو تم توظيف كل إمكانات الدولة الاقتصادية وأجهزتها الأمنية لضبط الايقاع في هذا الاتجاه.

لكن هناك من يعتقد بإمكانية تحقيق هذا الخلط، ويستمر في تقديم خطاب معلن يتناقض مع الأداء الفعلي على الأرض. ولعل رجب طيب أردوغان أبرز نموذج معاصر لهذا النوع من الزعامة المصابة بالانفصام بين خطابها وأدائها، فهو يغازل الهوى القومي في بلاده حين يستذكر عظمة الامبراطورية العثمانية الغابرة، وهو في الوقت نفسه يحاول تصغير تركيا واختصارها في حزب العدالة والتنمية الحاكم تحت عباءة الإخوان المسلمين.

وهو يهدد إسرائيل بالميكروفونات وسفن المتطوعين لكسر الحصار عن غزة، بينما تسعى حكومته إلى الحفاظ على حجم التبادل التجاري والمصالح الاقتصادية المشتركة مع دولة الاحتلال.

أردوغان يناور أيضاً مع الولايات المتحدة والغرب، ويتبنى خطاباً تصعيديا ضد أمريكا لكنه يصر على بقاء تركيا في حلف الناتو لتؤدي مهمات في المنطقة لا تختلف عن المهمات الموكلة لإسرائيل. وهو يهاجم الثقافة الغربية والأوروبية تحديداً ويفتعل النزاع مع فرنسا وغيرها، ولكنه في الوقت نفسه يتوسل العضوية في المجموعة الأوروبية.

حال هذا الرئيس التركي المتعدد الوجوه يجعلنا نحنّ إلى زمن كنا نرى فيه رؤساء بوجهين فقط.