الروائي البريطاني كازو ايشيجورو.(أرشيف)
الروائي البريطاني كازو ايشيجورو.(أرشيف)
الإثنين 24 يونيو 2019 / 19:45

بقايا اليوم

انكلترا نفسها تراجعت. لم تعد العظمى. لقد أخلت مكانها لأمريكا وصار الأمريكيون سادة العالم

فاز كازو ايشيجورو بجائزة نوبل عن عام 1918. هكذا حصل الياباني المولود 1954 في ناكازاكي والكاتب بالانكليزية والانكليزي الهوية على جائزة نوبل على نتاج أبرزه رواية «بقايا اليوم»، والتي أعيدت إلى الذاكرة مراراً بعد نيل صاحبها الجائزة وكأنه نالها عليها. الرواية ترجمها طلعت الشايب ترجمة مقبولة إلى العربية. رواية ايشيجورو رغم يابانية صاحبها رواية إنكليزية للغاية، بل التاريخ الإنكليزي والمزاج الإنكليزي والروح الإنكليزية تطبعها تماماً، بل إن محورها الأساسي هو فترة ما بين الحربين العالميتين في إنكلترا، والعلاقة التي دارت بين الحكم النازي بزعامة هتلر في ألمانيا والحكم الانكليزي برئاسة دارلنغتون في فترة ما بين الحربين. يمكننا القول إن الرواية التي كتبها ياباني إنكليزية حتى الصميم والطابع الإنكليزي يطغى عليها.

الرواية يرويها رئيس خدم اللورد دارلنغتون ومن هنا تبدأ. رئيس خدم رئيس الوزراء ليس مجرد خادم في قصر. إنه جزء من النظام الإنكليزي، وهو ليس أي رئيس خدم، إن له تقاليده وأواصره وتراتبيته، بل إنه في أحيان رئيس الخدم «العظيم»، وعظمته عندذاك ليست هوائية. إن لها أساساً وحدوداً. إشيجورو يضع لها تعريفاً ويضرب أمثلة عليها، وتضل هذه العظمة الغامضة من محاور الرواية وأركانها. رئيس الخدم في قصر رئيس الوزراء دارلنغتون هو أيضاً رئيس، وهو جنتلمان، وهو بموازاة رئيس الوزراء وإن يكن في محل آخر. إنه ركن في نظام إجتماعي، وهو إلى ذلك مثال للرجل الإنكليزي.

تبدأ الرواية من حيث انتهت لقد توفي دارلنغتون وصار القصر الى الأمريكي فارادي، والسيد فارادي ليس سياسياً، إنه رجل أعمال. ليس التحول من رئيس سياسي الى رجل أعمال ومن إنكليزي الى أمريكي عارضاً أو عابراً. إنه تحول في التاريخ الإنكليزي نفسه، لقد انتهى شيوخ سياسة وحلت محلهم نخبة من الاقتصاديين، ثم أن انكلترا نفسها تراجعت. لم تعد العظمى. لقد أخلت مكانها لأمريكا وصار الأمريكيون سادة العالم.

تقع الرواية بين الحربين العالميتين الكبريين، تقع في مرحلة انتقال كبرى. كان هتلر قد فاز بالانتخابات الألمانية وغدا الفوهرر، ولم تكن أوروبا مُجمَعَة على الوقوف ضد النازية، بل كان للنازية فروعها ومثيلاتها في أوروبا، في فرنسا وفي انكلترا. لم يكن دارلنغتون عنصرياً ولا لاسامياً لكن أثر اللاسامية عليه كان واضحاً. كانت السيدة بارينت مثقفة كبيرة وقريبة للغاية من دارلنغتون، لكنها كانت في ذات الوقت عضواً في «القمصان السوداء» التي، كما يوحي اسمها، تدين بالعنصرية وتعادي اليهود. كان من تأثير مدام بارينت على دارلنغتون أنه أسرّ الى رئيس خدمه بأن يطرد من الخدمة سيدتين يهوديتين ولم يكن أمام رئيس الخدم إلا أن يمتثل رغم أنه في قرارته لم يكن مقتنعاً. رئيس الخدم الذي يرى أن ركيزة رئيس الخدم هي الكرامة لم يجد لائقاً لأن يعبّر عن اعتراضه أمام مرؤوسيه. ترك مدام كيتون تهدد بأن تترك العمل حال طرد اليهوديتين ولم يفه ببنت شفة، إلا أنه أفصح عن رأيه حينما ندم دارلنغتون على قراره الذي لم يعد بعد السنين الطويلة ممكناً التراجع عنه، إذ لا يعرف أحد اين استقر الأمر باليهوديتين وأين حلّتا في نهاية هذا العمر الطويل. لكن دارلنغتون الذي لم يكن قاسياً على اللاسامية كان يرى أن معاهدة فرساي تشكل ضرراً لأوروبا ودعا الى مؤتمر في قصره ضد المعاهدة لم يؤازره الفرنسيون الذين ظلوا على عدائهم للألمان، وبقيت معاهدة فرساي بالنسبة لهم مشروعة. تنتهي الرواية بلقاء بين دارلنغتون والسفير ريبنتروب الألماني مداره دعوة دارلنغتون والملكة نفسها الى زيارة ألمانيا النازية. الدعوة التي لم تتم اذ قطعتها الحرب العالمية الثانية. لقد كانت هذه آخر مناورة لجيل من السياسيين آن أوان رحيله وغيابه.