رسالة الغفران لأبي العلاي المعري.(أرشيف)
رسالة الغفران لأبي العلاي المعري.(أرشيف)
الجمعة 28 يونيو 2019 / 21:59

تهذيب رسالة الغفران

رسالة المعري الأصلية متطرفة في الفصاحة وغريبة في اللغة والتعبير

عندما كنتُ في زيارة لإحدى مكتبات القاهرة القديمة، أشار علي أحد الأصدقاء باقتناء كتاب "رسالة الغفران" لأبي المعلاء المعري المتوفى في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، والذي كان بعناية د.عائشة بنت الشاطىء. بعيداً عن الجدل في مسألة استنساخ الكتاب من قبِل مفكري عصر النهضة، وبعيداً عن جدل في مسائل الإيمان مع ما شاع من إلحاد المعري، فإن تحقيق بنت الشاطئ لرسالة المعري كان بمثابة معجم لغوي مستقل للكتاب! فقد اضطرت بنت الشاطئ إلى إفراغ المعجم كاملاً داخل الكتاب حتى تجعل منه شيئاً عربياً مفهوماً.

رسالة المعري الأصلية متطرفة في الفصاحة وغريبة في اللغة والتعبير، بل سينتابك شعور أنك لو امتطيت آلة الزمن ورجعت إلى زمن العرب البائدة -الذين نفترض أنهم يتحدثون بلهجة المعري- وتحدثت معهم بلهجتك الحالية فإنهم قد يهرسونك هرساً ويعتبرونك جاسوساً رومانياً لا يعرف من لغتهم إلا اسمها. ما قام به المعري هو علك معجم اللغة كاملاً ثم قذف كل كلمة صعبة غير دارجة ولا مستخدمة ولا شائعة في صفحات الرسالة التي كان أولى أن تُسمى بـ "رسالة الغرابة".

الغرابة اللغوية وألغاز المعاني ليست غريبة في منهج المفكرين، فها هو الفيلسوف الألماني "كانط" يعترف أن كتابه "نقد العقل الخالص" يفتقر إلى الوضوح، وعلّل ذلك بسبب عدم امتلاكه وقتاً للشرح! لكن بعض الباحثين رأوا أن جمود اللغة الألمانية -التي كتب بها "كانت"- وافتقارها إلى المصطلح العلمي الدقيق وخوف المؤلف من ثورة المجتمع عليه، كل ذلك دفعه إلى ملأ كتابه بالدسم الكامل لعل الشراح يبسطون أفكاره حين يكون المجتمع أكثر انفتاحاً، لك أن تتخيل صعوبة الكتاب وأنت تقرأ كلام"ويل ديورانت" حين قال إن القسم الأخير من كتاب "كانط" هو حريق فلسفي لا يرى فيه الخبير سوى الدخان.

احتدم الجدل بعد إصدار دار ممدوح عدوان لنسخة مُهذبة لرسالة المعري، والتي كانت بعناية الاستاذ فرحان بلبل، كان هدفها تخفيف حدة اللغة العاجية التي استخدمها المعري.

ما قام به بلبل هو:
١- استبدال الكلمات البائدة المغمورة في المعاجم بكلمات يفهمها القارئ العادي، مع المحافظة على نسق تركيب الجملة كما أراده المعري.

٢- إعادة صياغة ما كان دليلاً على الفصاحة في عصر المعري إلى صياغة فصيحة بمقاييس عصرنا دون الإخلال باسلوب المعري، مع تتبع إحالات الضمائر المُبهمة وغير المفهومة وردها إلى أصلها.

٣- لم يمس أبيات الشعر أبداً لأنه لا يجوز فعل ذلك مع أبيات الشعر مهما حوت من المُبهمات.

٤- لم يحذف شيئاً من رسائل المعري وابن القارح.

اعتمد "المُهذب" نفس النسخة المُحققة من قبل الدكتورة بنت الشاطئ، أمام هذا الباب، نحن أمام خيارين لا ثالث لهما، إما نقرأ الأصل المُعقد، أو أن نهجره بالكلية، فجاء المؤلف ليفتح لنا باباً ثالثاً، وهو فتح المجال لعموم القراء للإطلاع على هذه الرسالة العظيمة بعدما كان فهمها حكراً على أعضاء مجمع اللغة العربية وبعض دارسي الصرف والبلاغة.