المسرحيان الفرنسيان عباس زحماني وشارلي نيلسون في مشهد من "في انتظار غودو" (أرشيف)
المسرحيان الفرنسيان عباس زحماني وشارلي نيلسون في مشهد من "في انتظار غودو" (أرشيف)
الثلاثاء 2 يوليو 2019 / 20:44

ماذا تنتظر؟

لا أحب الانتظار. لكنني أنتظر. أنتَ أيضاً تنتظر. كلنا ينتظر. الإنسانُ بوجه عام يحيا حال انتظار دائمة لشيء ما.

انتظار استراجون وفلاديمير سلبيّ، فيما انتظار سكان المدينة إيجابيّ وإن لم يخل من كوميديا وعبث أيضًا

إما ينتظر شيئاً مادياً مثل رسالة، أو كتاب، أو حبيب غائب، أو نقود، أو ابن ضال، أو حتى ينتظر أن يرفعَ الطعام من على الموقد. أو ينتظر شيئاً معنوياً مثل لقاء، أو سفر، أو ترقية، أو نجاح، أو عدالة، أو ميلاد، أو حتى موت. وإن زعمت عزيزي القارئ أنكَ الآن، في هذه اللحظة تحديداً، لا تنتظر شيئًا، فأنت واهم.

فأنت تنتظر أن ينتهي هذا المقال لتعرف عم سيُسفر. وإن كنت لا تنتظر شيئاً بالفعل، فأنت في الحقيقة تنتظر أن تنتظر شيئاً. أي تنتظر "الانتظارَ".

 جميع الأحياء ينتظرون شيئاً ما. الموتى فقط لا ينتظرون. أحقاً؟ مَن يدري؟ ربما ينتظرون.

حال الانتظار والترقب تلك، هي دليلنا على أننا نحيا. وهي ما يمنحنا الشغفَ بالأشياء. أو حتى الرهبةَ منها. والشغف والرهبة والتوجس والقلق والترقب كلها مشاعرُ إنسانية وصحية وضرورية من أجل انتظام الحياة وجودياً، على مستوى الروح، وبيولوجياً على مستوى الجسد.

وبينما يمارس البشر تفاصيل حياتهم وهم ينتظرون، نجد أن هناك بشراً آخرين يؤجلون حياتهم انتظاراً لهذا الذي سوف يأتي. أو لا يأتي. هناك من يرهنون أعمارهم ولا يفعلون شيئاً إلا الانتظار، إن كان الانتظار شيئا يفعل.
  
عبر عن هؤلاء البشر الكاتب المسرحي الأيرلندي صمويل بيكيت في مسرحيته الفاتنة "في انتظار غودو"، التي صنفت نقدياً ضمن مسرح العبث أو اللامعقول أو Absurd.

رجلان لا يجمع بينهما أي شيء سوى أنهما ينتظران شخصاً  اسمه غودو، سيحل لهما كل أزماتهما. لن نعرف أبداً طبيعة تلك الأزمات، ولا كيف سيحلها غودو، ولا مدى صلاحيات ذلك الغودو الذي ليس إلا شخصية افتراضية لا تطأ خشبة المسرح أبداً، ولن تظهر للجمهور، ولن نعرف عنه أي شيء إلا اسمه الذي يتكرر على لساني الشخصين المنتظرين، استراغون وفلاديمير، اللذيْن ينتظرانه منذ نصف قرن دون يأس ودون ملل. لا، ثمة ملل ينتابهما بين الحين والحين لكنهما يتحايلان عليه بثرثرة مفككة تنحو نحواً سريالياً كوميدياً. وهو أجمل ما يميز أدب بيكيت، من حيث تصدع البنية وعبثية الحوار وانهيار هيكل الحبكة الدرامية. إذ لا حبكة أصلاً، ولا دراما تسير في خط متنامٍ تصاعدي شأن المسرح الأرسطي المعتاد. بل ينحو "الحكي" نحوا دائريا "عبثياً" مفرغا لا يؤدي إلى معنى. مع مراعاة أن "اللامعنى" هو في ذاته "معنى" دون شك.

ومن هنا كان مُسمى "مسرح العبث". لكن الفكرة من وراءه عميقة على المستوى الفني والمضموني على السواء. إذ تشير إلى عجز اللغة، كل لغة، عن التعبير الكامل الحقيقي عما يمور داخل النفس البشرية من أفكار ومشاعر.

يأتي الرجلان إذاً كل يوم، منذ خمسين عاماً من مطلع الشمس وحتى غروبها، إلى ذات البقعة الجرداء، إلا من شجرة يفكران كثيراً في شنق نفسيهما عليها ولا ينفذان قرارهما أبداً.

 يثرثران بتوافه الكلام، وينتظران. يسأل أحدهما الآخر: ماذا نفعل الآن؟ فيجيب الآخر: ننتظر. / هيا نمضي! / لا نستطيع! / لماذا؟ / لأننا ننتظر غودو/ آه. / إنه لم يقل إنه سيأتي على وجه اليقين. وإذا لم يأت اليوم؟ / سنحضر إلى هنا في الغد/ . ثم بعد غد.

عشرات المدلولات والرموز يمكننا أن نحلها محل غودو المنقذ المُخلص المنتظَر أبداً. حتى وإن خلا السرد من أي دليل على وجوده اللهم عدا الغلام الذي يأتي ليخبر المنتظرين أن غودو قادم غداً. هذا الغد لا يأتي بدوره أبداً. على أن الانتظار تحول إلى هدف وحياة. لا حياة خارجها. رغم أنهما عاشا نصف قرن دون غودو!.

يختلف هذا اللون من الانتظار السلبي الذي طرحه بيكيت عن الانتظار الذي طرحه "قسطنطين كفافيس" في قصيدة "في انتظار البرابرة". ليس وحسب لأن "البرابرة" عدو مخيف عكس "غودو" رمز الخلاص. لكن الأهم هو في اختلاف طبيعة الانتظار ذاته وهو ما يهمنا هنا.

 انتظار استراغون وفلاديمير سلبي، فيما انتظار سكان المدينة إيجابي، وإن لم يخل من كوميديا وعبث أيضا. القوم محتشدون في الأسواق، ومجلس الشيوخ توقف عن العمل مترقباً وصول البرابرة، والإمبراطور صحا من نومه مبكرا على غير عادته، وارتدى أجمل ثيابه وازدان القناصل، والجند بالصولجانات وتقلدوا الجواهر والذهب. لماذا؟ لأن البرابرة قادمون اليوم.
 
الكل خائف ومرتعب والحكومة تتأهب لهذا العدو الشرس منتويةً أن تسلم إليه القيادة كاملةً دون قيد أو شرط. وفجأة تكتسي الوجوه بالوجوم. لماذا؟ لأن البرابرة لم يجيئوا كما هددوا. وكأن الشعب التعس كان ينتظر عدواً "مجهولاً"، لينجو من عدو "معلوم". هو النظام. حتى أن السطر الأخير من القصيدة يقول: "ماذا سنفعل الآن بلا برابرة؟ لقد كانوا حلاً من الحلول".

ولأننا ننتظر أحداً طوال الوقت، نحزن حين لا ينتظرنا أحد. لذلك تقول فيروز: "قديش كان في ناس/ ع المفرق تنطر ناس/ وتشتي الدني ويحملوا شمسية / وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني!"