فلسطينيون يرمون قوات إسرائيلية بالحجارة (أرشيف)
فلسطينيون يرمون قوات إسرائيلية بالحجارة (أرشيف)
الخميس 4 يوليو 2019 / 19:41

البلاغة كبديل لاختفاء الأشياء

لقاموس المتداول يبدو مثيراً للشفقة وهو يحاول التحشيد في مرحلة الفوضى الشاملة التي تعصف بالمنطقة وتحاصر "المشروع الوطني الفلسطيني" البسيط والواضح

تهلهت البلاغة السياسية الفلسطينية، انفصلت تماماً عن البنية الفكرية التي أنتجها مثقفون وثوريون في نهاية العقد السادس من القرن الماضي، واغتنت بقوة خلال السبعينيات، بنية كانت رافعة لصعود الثورة المعاصرة، وتكريس منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني وحالةً ثوريةً ملهمة في العالم، النظرية التي تأسست في المنفى عبر شراكة عميقة، وصراع مثمر بين السياسي والثقافي، انعكس في تعددية تجاوزت الإطار الفلسطيني الوطني، مستفيدةً من الجهد النظري العربي وانفتاحها على خبرات الشعوب في العالم.

"البلاغة المعاصرة" التي تتردد مثل صدى بائس الآن هي ما تبقى من تلك الحقبة الغنية، والاستعارات المثيرة للشفقة، مع إضافات سلفية جاء بها الإسلام السياسي في العقدين الأخيرين، هي ما بقي من فكر سياسي وجدل قاده مثقفون، وشعراء وكتاب كانوا جزءاً مؤسساً من نسيج الثورة.

هذا بالضبط ما يحصل حين ينحسر الفكر ويبقى الخطباء.

حين ينحسر دور الثقافي، ويبدأ السياسي في كتابة الرواية.

انتهى الجيل الذي نشأ في سياق صعود الثورة وزرع أحلامه في أنحائها ومنعطفاتها، تبدلت التحالفات وأزياء الرجال وملامحهم الفتية، والوجوه الملوحة لنساء جريئات يندفعن بأجساد قوية في المطارات والأراضي الوعرة، وتبدلت الأسلحة والأكتاف، سقطت منظومات كاملة، ودخل العالم في مناخ القطب الواحد، دون أن تسعف المخيلة النخب السياسية الفلسطينية للخروج بدورها إلى "العالم الجديد"، ليس ثمة بناة جسور، لقد جرت عملية إقصاء غير مدروسة لتوفير أماكن شاغرة لمتسلقين ودعاة، هم الآن من يوفرون البضاعة للنخب الهرمة.

بضاعة سهلة الحمل تبرر اختفاء الأشياء لنخب عابرة للزمن تهرم في طريقها الذي ينحسر عن كمين، وتستبدل العالم بشقة ضيقة في بناية مهجورة.

نُخب تداعى زمنها وتحول إلى واقع افتراضي تماماً، بحيث لم يعد ممكناً الربط بينها وبين الواقع المحيط بها، واقع لا يشبه المصطلحات المستنفذة، أو الشعارات التي لا تجد ما تتكئ عليه سوى لغة خشبية يجري تمريرها بين خطباء ورثوا خطباء، شعارات تصلح للجميع دون تخصيص ويستخدمها الجميع دون تمييز، البراعة هنا تعتمد على المهارات الفردية لكل خطيب، وقدرته على التصرف بتموج النبرة ورطانة المفردات وحماسة الجسد، بينما لا شيء يمكن أن يمكث في الأرض أو ينفع الناس في كل هذه الرطانة.

القاموس المتداول يبدو مثيراً للشفقة وهو يحاول التحشيد في مرحلة الفوضى الشاملة التي تعصف بالمنطقة وتحاصر "المشروع الوطني الفلسطيني" البسيط والواضح، ثمة ثغرات واسعة لم يعد بالامكان رتقها أو ترميمها بين الواقع والخطاب، بين الجمهور والخطيب وبين التلقي والتلقين.

بلاغة عمياء تصعد لترمم غياب البرنامج.

لم يعد ممكناً إقناع المواطن الذي يتحمل عبء الحصار الأمريكي الإسرائيلي، ويرى بأم عينيه تهاوي المنطقة العربية وتخبط المحيط، بتدبيج خطاب حول "المقاومة" و "الصمود"، أو بتصدر مسيرة فصائلية والسير تحت الأعلام واللافتات المقتبسة من الخطاب الذي سيقوم بشرحها بعد قليل أمام كاميرات الفضائيات ومراسليها، مسيرة تنتهي بخطاب "وحدوي" في واقع انقسام تعمق خلال أكثر من عقد من السنوات، و"ثوري" في واقع البحث عن "تفاهمات" مع الاحتلال، و"مستقل" بينما تصل الأموال المحسوبة بدقة في حقائب عبر "حاجز العدو"، و"وطني" في واقع تنفيذ سياسات الآخرين.

تحلق البلاغة فوق رؤوس الناس الذين لا يحصلون على شيء بعد انتهاء المسيرة وعودة القادة ومرافقيهم الى بيوتهم.

تحلق البلاغة ولا شيء سيبلّل الأرض.

فرادى بأذرع متهدلة يتفرق الناس الذين وصلوا أرضية الخطاب جماعات متراصة خلف الصف الأمامي، الصف الأمامي الذي تكاتف وراء اللافتة، اللافتة التي تختصر الخطاب، الخطاب الذي ألقاه الخطيب على أجسادهم المسحوقة بالحصار واليأس، الخطيب الذي فسّر اللافتة.. إلى آخره إلى آخره.