مشهد من النكبة.
مشهد من النكبة.
الأحد 7 يوليو 2019 / 19:15

أكثر من هيكل عظمي في أكثر من خزانة!

خلاصة هذا كله أن الهجرة الطوعية أسطورة، وأن عمليات طرد رسمية قد وقعت، وإن كان من الصعب التدليل على وجود خطة مركزية للتطهير العرقي

ظهر تعبير "هيكل عظمي في الخزانة" في أدب بريطانيا الفكتورية في القرن التاسع عشر، ودلالته المباشرة وقوع جريمة، ومحاولة إخفاء آثارها. التعبير مُتداول، على نطاق واسع في الأدب، كما في السجالات السياسية، في مختلف اللغات الأوروبية، في الوقت الحاضر، وينطوي على دلالات منها: الحرص على كتمان سر يمثل مصدراً للخجل، وقد تكون له، في حال افتضاح أمره، نتائج كارثية بالنسبة للفاعل الأصلي، وكذلك الأحزاب والدول.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بالدولة الإسرائيلية، فإن وثائق 1948، وما يتصل منها على نحو خاص باللاجئين الفلسطينيين، تضم في ثناياها أكثر من هيكل عظمي، وتوحي بوجود أكثر من خزانة للأسرار في مكان مظلم وبعيد. وهذا، في الواقع، ما أعاد التذكير به تحقيق موسّع نشرته جريدة "هآرتس" الإسرائيلية يوم الجمعة الماضي.

يعالج التحقيق الذي نشرته الجريدة تحت عنوان "دفن النكبة" حجب واختفاء وثائق تدل على ارتكاب جرائم السرقة، والاغتصاب، والمجازر الجماعية، من جانب القوات النظامية، وشبه النظامية الإسرائيلية، في سياق طرد الفلسطينيين، بالقوّة، في حرب العام 1948، وتدمير الغالبية العظمى من البلدات والقرى للحيلولة دون عودة اللاجئين إلى أماكن سكناهم.

الوثائق المعنيّة موزعة على أكثر من أرشيف ومكان لحفظ الوثائق: منها الرسمي كمحفوظات ووثائق وزارات الدفاع، والخارجية، والأمن، وغير الرسمي الذي يتبع الجامعات، ومراكز البحث، ومحفوظات ووثائق الأحزاب، والمؤسسات ذات الصلة بتاريخ الحركة الصهيونية، والاستيطان، وقيادة ما يدعى بالييشوف اليهودي، أي مجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين قبل قيام الدولة.

وقد خرجت من صفوف تلك الأحزاب والمؤسسات قيادات وكوادر الجناحين السياسي والعسكري في حرب العام 1948، ودوّن هؤلاء بعد الحرب مباشرة، وفي سنوات لاحقة، مذكرات عن أدوارهم، وتعليقات على سير العمليات، وملاحظات على السياسة العامة، ومرافعات أيديولوجية، وتبادلوا رسائل مع آخرين، وكلها وثائق ذات قيمة تاريخية فائقة.

ولم تتضح القيمة التاريخية لكل ما ذكرنا إلا في أواخر سبعينيات القرن القرن الماضي، عندما استفاد مؤرخون إسرائيليون، في مطلع حياتهم المهنية، من قانون يسمح بالاطلاع على وثائق تعود إلى ما قبل ثلاثة عقود مضت، أي إلى حرب العام 1948.

كان مضمون الرواية الرسمية الإسرائيلية، حتى ذلك الوقت، أن الفلسطينيين غادروا بلداتهم وقراهم، طواعية، استجابة لنداء من دول عربية مجاورة، دخلت بجيوشها إلى فلسطين، وطالبتهم بالابتعاد، مؤقتاً، عن مسرح العمليات، حتى الانتهاء من القضاء على الدولة الإسرائيلية الوليدة. ولكن الوثائق التي تمكّن المؤرخون، وأغلبهم كان يعد أطروحته للدكتوراه، في ذلك الوقت، ألقت ظلالاً عميقة من الشك على الرواية الرسمية.

وفي هذا السياق، وُلد ما سيُعرف، في أواخر الثمانينيات، وعلى امتداد عقد التسعينيات، بالمؤرخين الجدد في إسرائيل، وكان أبرزهم بيني موريس، الذي نشر كتابه عن نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في أواخر الثمانينيات، وإيلان بابيه، الذي كتب أطروحته عن الانتداب البريطاني، وآفي شلايم الذي نشر كتابه عن سياسة التقسيم.

وخلاصة هذا كله أن الهجرة الطوعية أسطورة، وأن عمليات طرد رسمية قد وقعت، وإن كان من الصعب التدليل على وجود خطة مركزية للتطهير العرقي. كانت هذه خلاصة موريس الرئيسة، ولكن إيلان بابيه توصل إلى قناعة مغايرة، تماماً، في كتاب نشره في وقت لاحق بعنوان "التطهير العرقي لفلسطين"، وخلاصته أن سياسة التطهير العرقي كانت مركزية ومنهجية في آن.

والواقع أن سمحا فلابان، وهو من قيادات حزب الماباي، ويُحسب أحياناً بوصفه من المؤرخين الجدد، سبق المذكورين، في التدليل على سياسة الطرد القسري، في كتاب نُشر في أواخر الثمانينيات بعنوان "ولادة إسرائيل".

وما يعنينا في هذا الشأن، وبقدر ما يتعلّق الأمر، بالتحقيق الذي نشرته جريدة هآرتس، أن باحثة إسرائيلية عثرت في أحد الأرشيفات غير الرسمية، في الآونة الأخيرة، على وثيقة تدل على ارتكاب مجزرة جماعية في قرية صفصف في الجليل الأعلى، وعلى عمليات اغتصاب، وكذلك تهجير للبدو من النقب. ولكن الوثيقة المعنية اختفت بعد فترة، فاتصلت ببيني موريس الذي أخبرها، بدوره، أن بعض الوثائق التي استند إليها في كتابه عن نشوء مشكلة اللاجئين قد اختفت، أيضاً.

وكانت هذه الحادثة مبرر التحقيق الاستقصائي، الذي يتضح منه أن ثمة وحدة خاصة باسم وحدة الأمن في وزارة الدفاع تقوم بإعادة تقييم الوثائق، وفرض السريّة حتى على وثائق سبق رفع السريّة عنها، وأن هذا العمل بدأ منذ مطلع العقد الماضي، وأن العاملين في الوحدة المعنية يبررون زيارتهم لمختلف الأرشيفات، ودور المحفوظات، بدعوى فرض السرية على وثائق تخص المشروع النووي الإسرائيلي، ولكن حقيقة عملهم تتجاوز هذا، وتنصب بشكل خاص على أحداث ووقائع حرب 1948.

وفي معرض الرد على مسألة حجب الوثائق، قال رئيس سابق للوحدة المذكورة: إن الكلام عن وثيقة في كتاب ما لا يعني شيئاً في حال عدم وجود الوثيقة نفسها، وبرر هذا الأمر بمسوّغات سياسية، وضرورات أمنية قائمة.

ولعل في رد كهذا ما يؤكد أن ثمة الكثير من الهياكل العظمية في خزانة الدولة الإسرائيلية، وأن فيها ما تخشى من افتضاح أمره، وعلى رأس هذا كله، وفي القلب منه، حقيقة النكبة وسياسة طرد الفلسطينيين.