لبنانيون يتظاهرون احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية (أرشيف)
لبنانيون يتظاهرون احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية (أرشيف)
الإثنين 8 يوليو 2019 / 21:08

ضوضاء لبنانية

ليس أمامنا إلا دولة تناقض أسسها وتنقلب على نفسها وتتداعى مع حرصها على أن تبقى لها هياكلها، أو أن تبقى هي هيكلاً قائماً

لبنان اليوم في ضوضاء تصدر عن كل ما فيه، لا نعرف كيف وصل كل شيء الى الغليان، وكيف نجد في كل ناحية من البلد هياجاً وثوراناً، دون أن تتقاطع هذه المصادر، ودون أن تؤدي الى معركة واحدة، ودون أن تتوصل الى مسار جامع، فهناك في وقت واحد أزمات ليس لها ذات المستوى ولا ذات المواجهة ولا ذات الأسباب.

بعد الانتخابات النيابية وبعد تنصيب رئيس جديد للبلاد، لا يبدو أن البلد وصل الى استقرار، بل يبدو أن الاستقرار نفسه والعودة الى الهدوء فرصتان جديدتان لفتح الدفاتر القديمة وتجديد المجابهات والإضافة اليها، ينشط مع ذلك الصراع وتتعدد وجهاته بل وتتضارب.

الموضوع الاقتصادي يحتل فجأة الواجهة ويغدو جماهيرياً دفعة واحدة. نقاش الموازنة الجديدة في الوزارة ليس وحده في الساحة، إنه أمام ضغوط تصدر عن كل مكان، وفي تضافر للمواجهات والمطالب. يخرج الناس إلى الشارع من مهن ووظائف عدة، بل يخرج الأمنيون والضباط الى الشارع وهم القيّمون على الأمن وعلى الاستقرار. لكل مطلبه، بل لكل مطالبه، والكل يخشى أن يدفع ثمن الاستقرار الاقتصادي. الكل يخشى أن تتم الأمور على حسابه، والكل يشعر أنه معرض للظلم، وأن ثمة خطراً على مصالحه ومستقبله. لكن الأزمة الاقتصادية وهي عامة وجامعة لا تجعل الشارع يتوحد ويتخذ مساراً واضحاً. الأزمة الاقتصادية لا تنتهي الى توحيد الصراع وإلى أولويته، وإلى تكتل الجماعات والفرق حوله، بل يبدو أن المعركة الاقتصادية تستدعي بقية المعارك. في وقت واحد تندلع النار المطلبية والنار العنصرية والنار الطائفية. في وقت واحد يتجمع الناس حول ما ينقسمون عليه في مواضع أخرى. لا يمنع النضال المطلبي من الخوض في المياه الطائفية والعنصرية ومن تجديد الانقسام الطائفي بل وتأجيجه أيضاً. وإذا كان هناك بقية من ذيول الحرب الأهلية اللبنانية، فإن هذه الحرب تجد لنفسها ذيولاً أخرى واحتدامات أخرى، فالصراع المسيحي ــ الإسلامي الذي وسم العقدين الماضيين يبقى شبحه حاضراً.

في الوقت الذي يحتدم فيه الصراع بين الشيعة والسنّة، وفي الوقت تعود فيه الى الحياة حرب لم تكتمل ولم تنته، ولم تصل الى توازنات جديدة. يعود الصوت الطائفي قوياً ويحسب زعماء مسيحيون أن الوقت حان لاستعادة مواقع تنازلوا في زمن آخر عنها، فيما يتستر الشيعة على الموقع الجديد الذي احتلوه في غضون الأيام الجارية، ويحاولون ان يجمعوا بين السيطرة الخفية والسلاح الخفي والمواقع الجديدة التي قفزوا اليها، بدون علانية وبدون صراحة، فلهم قدر من الحياء الطائفي يمنعهم من أن يمارسوا في العلن ما صار ملك يمينهم، أو أن يعلنوه ويتقاضوا صراحة ما يتطلبه ذلك وما يقتضيه. في الوقت نفسه يسعى السنة إلى أن يُبقوا في قبضتهم الامتياز الذي حصلوا عليه بعد الاستقلال وأن يُبقوا الموقع الذي تسيّدوا فيه قوياً وفاعلاً. ليس أمامنا إلا دولة تناقض أسسها وتنقلب على نفسها وتتداعى مع حرصها على أن تبقى لها هياكلها، أو أن تبقى هي هيكلاً قائماً.

مسألة أخرى تقع فوق الواقع اللبناني ولا نعرف كيف تنتهي، هي مسألة السوريين النازحين الى لبنان، والذين يشكلون اليوم ثلث المقيمين فيه، وهذا يعني أن البلد تغيّر ديموغرافياً ولم يعد لأهله. بين سوريا ولبنان منذ الاستقلال تشابكات في أوقات أخرى الى سطوة بلد على الآخر ووقوع لبنان تحت الاحتلال السوري. الآن يجتمع اللبنانيون لا على الصعيد المطلبي فحسب بل على الصعيد العنصري. إننا الآن أمام صفحة جديدة من التدخل السوري. هكذا تنشأ عند اللبنانيين جميعاً نعرة عنصرية لكنها مع ذلك لا توحدهم ولا تشملهم. لقد تجدد الصراع السوري اللبناني بدون أن يؤدي ذلك الى توضيح المسائل وفرز الأمور.