الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مصافحاً رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل اسحق رابين وبينها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.(أرشيف)
الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مصافحاً رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل اسحق رابين وبينها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.(أرشيف)
الثلاثاء 9 يوليو 2019 / 20:48

وعود أوسلو وكوابيسها

داخل أقفاص أوسلو لا مساحة كافية لممارسة استقلال اقتصادي عن إسرائيل التي تفسر اتفاق باريس كما يحلو لها وكما تتطلبه أجندة الضغط على الفلسطينيين كي يتعايشوا مع الأمر الواقع

زفّ الفلسطينيون لأنفسهم بشرى نجاح المحادثات السرية التي جرت في أوسلو وأسست لولادة السلطة الفلسطينية التي كان مفترضاً آنذاك أن تفضي خلال خمس سنوات إلى دولة مستقلة.

التقط العالم هذا التطور التاريخي وشرع في التعامل مع سلطة الحكم الذاتي المحدود كما لو أنها دولة، فلم يبق زعيم ذو شأن إلا وزار غزة ليلتقي بياسر عرفات مقدماً أقصى ما يستطيع من دعم وتبنٍ للمشروع التاريخي.

كانت حاجة الفلسطينيين إلى تسوية تنشئ كياناً لهم دافعاً منطقياً لئلا يناقشوا تفاصيل الاتفاق مع إسرائيل بدقة وحذر، وقد وضع الرئيس الراحل حافظ الأسد يده على هذه النقطة حين وصف الاتفاق الذي نتج عن أوسلو بأنه عام، وقال إن كل سطر فيه يحتاج إلى سنوات من التفاوض التفصيلي، وفي حالة من هذا النوع يحدث ما أفصح عنه صانع الاتفاق الرئيس محمود عباس من أنه إما أن يفضي إلى دولة مستقلة أو يكرس الاحتلال وذلك يتوقف على أداء الفلسطينيين لمهامهم في المرحلة الانتقالية.

أمور كثيرة لم ينتبه لها الفلسطينيون ولم يدققوا في احتمالاتها وأهمها وأكثرها تأثيراً على مسارات أوسلو تطورات الوضع الداخلي في إسرائيل وما يقابلها من تطورات داخلية على الجانب الفلسطيني.

بدأت وعود أوسلو بالتحول الى كوابيس حين تمكن الليكود المعارض إيديولوجياً وسياسياً لفكرة أوسلو وأهدافها، فمن اليوم الأول لحكم الليكود بدأ التنصل العملي من كل الالتزامات ودخل الفلسطينيون مرحلة سباق حواجز تقطع الأنفاس فتحوّل كل شيء إلى نقيضه، وصار السلام الذي بدا أنه في قبضة اليد جمرة لاهبة لا يشعر الفلسطيني إلا بنارها دون أن يملك قدرة على التخلص منها.

أخطر ما انطوى عليه التسرع في التعاطي المتحمس مع عناوين أوسلو ووعودها هو إضافة احتلال ثالث إلى الاحتلالين التقليديين، العسكري والاستيطاني وهو الاحتلال الاقتصادي. وفي أيامنا هذه تضخم تأثير الاحتلال الثالث ليصبح عنوان ومضمون المرحلة الراهنة. ففي غزة يتركز الاهتمام على التسهيلات الحياتية التي جذرها اقتصادي فما يطلبه الناس هناك هو بعض ماء نظيف وبعض كهرباء وبضعة أدوية وبضعة كيلومترات من مساحة الصيد مع حد أدنى أو دون الأدنى من الحركة عبر إيريز أو رفح، وإذا كان ظاهر الحياة في الضفة يبدو أكثر يسراً مما هو عليه في غزة فإن الجزرة التي تلقى للفلسطينيين إلى جانب الهراوة هي الاقتصادية، فلقد تأسس الاقتصاد الفلسطيني على علاقة استثنائية شديدة العمق والاتساع مع الاقتصاد الإسرائيلي ما جعل الانفكاك من هذا الاحتمال الثالث مجرد شعار سياسي يفتقر إلى المسوغات العملية لتطبيقه. ولعل هذا هو كلمة السرّ التي التقطها الأمريكيون لجعل الحل الاقتصادي أساساً لصفقة القرن .

داخل أقفاص أوسلو لا مساحة كافية لممارسة استقلال اقتصادي عن إسرائيل التي تفسر اتفاق باريس كما يحلو لها وكما تتطلبه أجندة الضغط على الفلسطينيين كي يتعايشوا مع الأمر الواقع.

ومن كوابيس أوسلو التي تتجسد هذه الأيام الاقتطاع التدريجي من أموال الفلسطينيين التي تسيطر إسرائيل على معظمها، فبعد خصم ملايين الدولارات بحجة انها تدفع لأسر الشهداء والأسرى ظهرت هذه الأيام بدعة جديدة مغطاة بقرار قضائي وهو منح كل عائلة إسرائيلية قتل أو جرح واحد من أبنائها الحق في أن تقاضي السلطة، وقدر المبلغ المتوقع للخصم ما يقارب الثلاثمائة مليون دولار .

قبل ربع قرن كانت أوسلو وعداً أما الآن فهي كابوس من كل النواحي وهذه هي حال السياسة التي تحول السراب إلى ماء.