المفكر الألماني كارل شميت (أرشيف)
المفكر الألماني كارل شميت (أرشيف)
الأربعاء 10 يوليو 2019 / 21:03

حق الدولة في الحرب

الدول الاشتراكية بالغتْ في تقديس الجرارات الزراعية، ومحطات السكك الحديدية، والدول الرأسمالية بالغتْ في تقديس الهاتف المحمول، بشاشته الصغيرة التي ابتلعتْ قاعات السينما الكبيرة، وقريباً ستبتلع التلفزيون

من السمات الأساسية للدولة كما وصفها المفكر القانوني الألماني الشهير كارل شميت (1985- 1888)، في كتابه "مفهوم السياسي"، أنها كيان سياسي جوهرى، يمتلك تحديد العدو بناء على قرار ذاتي، ويتخذ قرار قتال هذا العدو، إذا دعتْ الحاجة.

ليستْ الوسائل التقنية المستخدمة في الحرب، ولا منظومة الجيوش المتوفرة، ولا احتمالات النصر في الحرب، ذات أهمية هنا، طالما كان الشعب المتفق سياسياً مع الدولة، مستعداً للقتال من أجل وجوده واستقلاله، مع العلم أن الشعب هو مَنْ يحدد، وبموجب قراره الخاص، معنى وجوده واستقلاله.

وليستْ هناك معضلة فلسفية في التوحد بين قرار الدولة، وقرار الشعب. يأتي الاتفاق على العدو المهدد، طبيعياً، بديهياً، لا يحتاج إلى شرح، إذ يلتقي هذا الاتفاق، بتزامن حركة الدولة، وحركة الشعب، في اتجاه واحد، بحيث يصعب معرفة مَنْ المبادر في قرار الحرب. الأمر أشبه بانسجام نغمتين تصاحب إحداهما الأخرى.

تطور التقنية العسكرية يدفع للظن بأن دولاً قليلة فقط هي مَنْ تحتكر إمكانية خوض حرب رابحة، بينما تتخلى الدول الأصغر عن خوض الحرب طوعاً، أو قهراً. كأنَّ كارل شميت السابق لزمنه، يُلمِّح إلى أن خوض الحرب، يتعلق بجرأة القلب، يتعلق بالقلب الجسور، ففي الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وكتلته الاشتراكية من جهة، وبين أمريكا والغرب الرأسمالي من جهة أخرى، كانت الكتلة الاشتراكية لا تملك جرأة القلب.

في فيلم "كازينو" 1995 للمخرج مارتن سكورسيزي، يقول مدير نادي القمار روبرت دي نيرو فيما معناه، عن صديقه الممثل جو بيشي في دور نيكي: هو ليس ضخماً، فهو ضئيل الحجم، لكنه يملك جرأة القلب، يملك القلب الجسور، وفي أحيان كثيرة يهزم مَنْ هو أقوى منه.

كان مصطلح "الحرب الباردة" زائفاً. كانت أمريكا، والغرب من ورائها، تحارب حرباً ضروساً، شرسة، ضد الكتلة الاشتراكية، بينما أقنع الاتحاد السوفييتي نفسه بخنوثة، لخوفه من خوض الحرب الحقيقية، بأن الحرب الباردة، تقتصر فقط على السباق في تكديس الرؤوس النووية، وفي الحقيقة الأمر، لا يملك أحد سلاحاً نووياً، طالما لم يستطع استخدامه مرةً على الأقل. القوة لا تُختزن بالمعنى النيتشوي. أمريكا ذات القلب الجسور، وهي ليستْ ضئيلة الحجم مثل الممثل جو بيشي، امتلكتْ وحدها السلاح النووي، فهي مَنْ استخدمته مرةً لضرب اليابان.

من المفارقات، أن فوز أمريكا والغرب على الكتلة الاشتراكية في الحرب الباردة، كان فوزاً أكثر من اللازم، كان تمزيقاً للدول من الداخل، بالحروب الأهلية، وصناعة الجماعات الدينية المتشددة. بعد الفوز تعاني أمريكا الآن، والغرب أيضاً، من توحش الرأسمالية الفائقة، وطغيانها على الطبقات المتوسطة، وهو نفس التوحش المعكوس الذي أصاب طبقات الدولة الاشتراكية، بالفقر، في عهد الستالينية.

الدول الاشتراكية بالغتْ في تقديس الجرارات الزراعية، ومحطات السكك الحديدية، والدول الرأسمالية بالغتْ في تقديس الهاتف المحمول، بشاشته الصغيرة التي ابتلعتْ قاعات السينما الكبيرة، وقريباً ستبتلع التلفزيون. كل مجد الذكاء الاصطناعي المستقبلي، سيكون مصلوباً على شاشة الهاتف المحمول الصغيرة.

فليستْ الاشتراكية، أو الرأسمالية، إحداهما أفضل من الأخرى في بناء الدولة، بل لا بد للاشتراكية من بعض الرأسمالية، كما أن الرأسمالية في طبعتها الحديثة الرقمية، تعاني من نقص فيتامين الاشتراكية بشكل شديد، وهذا يُفسِّر التشنجات الاشتراكية المفاجئة في جسد الرأسمالية، ومن هذه التشنجات، دفاع الدولة الأمريكية عن شركة آبل الخاصة، ضد شركة هواوي الصينية، وضرب عرض الحائط، مبدأ المُنافسة الحرة، وهو المبدأ المهيب في الرأسمالية.
   
الكارثة تأتي دائماً من افتقاد التوازن، من التركيز الصرف لاشتراكية الدولة، أو من التركيز الصرف لرأسمالية الدولة. نحن نعيش الآن في حقبة كثافة الرأسمالية، وتركيزها إلى حد خيالي. بهذا المعنى هزمتْ الرأسمالية منظومة الاشتراكية أكثر مما ينبغي. كان عليها أن تترك للعدو الحد الأدني من الوجود.

بحثتْ الدولة الأمريكية بعد الحرب الباردة عن عدو آخر، فهي دولة في حالة حرب دائمة، فلم تجد سوى الإرهاب الذي كان صديقاً للولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب الباردة. كانت السمة الفاعلة للإرهابيين، أنهم أعداء الداخل، وكان هذا منبع قوتهم في الهدم، ووجاهة استخدامهم من قِبَل أمريكا والغرب في الحرب الباردة، لكن كما كانوا أعداءً داخل الدول الاشتراكية، هم الآن أعداء داخل الدول الرأسمالية.