علاف "أساطير بيضاء، كتابة التاريج والغرب" (أرشيف)
علاف "أساطير بيضاء، كتابة التاريج والغرب" (أرشيف)
الخميس 11 يوليو 2019 / 21:01

أساطير بيضاء.. في القراءة الطباقية ونقض المركزيات الثقافيّة!

هناك خلل كبير في عدد كبير من الجامعات العربية في مناهج تدريس الآداب والعلوم الإنسانية، وذلك بسبب شيوع النظرة التجزيئية في التدريس

كتاب "أساطير بيضاء، كتابة التاريخ والغرب" White Mythologies,Writing History and the West للمفكر روبرت يانج هو واحد من أبرز الكتب التأسيسيّة في نقد الكولونياليّة والكولونياليّة الجديدة، وهنا أفرق بين "الاستعمارية" التي تعني احتلالاً عسكريًا وهيمنة سياسية والكولونيالية التي تشتغل أساسًا على الخطابات؛ أيّ ما أنشأته الاستعمارية من أرشيف وثائقيّ وتمثيلات ثقافية وكتب ومفكرين يرسخون بطريقة ما مفاهيمها الكبرى.

والكتاب ليس منشغلاً بالدرجة الكبرى في قضايا العرق والزنوجة التي اشتغلت عليها أساسًا الدراسات الأفرو أمريكية والأدب الأسود. والأساطير البيضاء لا تستدعي الأساطير السوداء كما قد يوحي بذلك عنوان الكتاب عند النظرة الأولى! إنَّ هذا الكتاب معنيّ أساسًا بنقض أفكار بعض المفكرين الأوروبيين الذين أوجدوا في كتاباتهم "مركزية أوروبية حاكمة" اختزلت تواريخ العالم كلّه وتواريخ شعوبه المتباينة في تاريخ واحد أوروبيّ مركزيّ يّقاس بواسطته ارتقاء الشعوب الأخرى! فعلى سبيل المثال أعلن هيجل أنَّ أفريقيا لا تاريخ لها، كما أنَّ ماركس رغم انتقاده للإمبريالية البريطانيّة هو الذي توصّل إلى أنَّ الاستعمار البريطانيّ للهند كان في مصلحتها في نهاية الأمر، لأنّه أدخل الهند ضمن السرد الارتقائيّ الخاص بالتاريخ الغربيّ، وخلق بذلك ظروف الصراع الطبقيّ في المستقبل! كما فهم هيدجر، ومعه التاريخ الغربيّ كلّه، العلاقة مع الآخر على أنّها تتم تبعًا لمشيئة الشعوب المستقرة مالكة الأرض وبانيتها. فالملكية في الغالب الأعم هي الشكل الذي يصبح فيه الآخر هو الذات بتحوِّله إلى ملكيتي!

كتاب "أساطير بيضاء" معنيَّ أساسًا بنقض نسق التاريخ الهيجليّ، كما ينقض ماركسية كارل ماركس التي سمَّاها "الماركسية البيضاء" التي رسّخت بطريقة ما مركزية تاريخ العالم الأوحد وفقًا للهيجلية. وتصدر أهمية هذا الكتاب الاستثنائي أنَّه فكّك مقولة أنَّ التاريخ الأوروبيّ هو "تاريخ التاريخ" و"تاريخ العالم" الوحيد، وناقش آراء بعض المفكرين الأوروبيين من هيجل وماركس إلى ألتوسير وفوكو كما وقف عند اشتغالات إدوارد سعيد وجاياتري تشاكرافورتي سبيفاك وهومي بابا في سياق نقض كولونيالية التاريخ وتفكيك "الغرب".

كان إدوارد سعيد أول من دعا إلى "القراءة الطباقية" التي استوحاها من التوزيع الموسيقي الهارموني؛ ويقصد به قراءة النص وفي الوقت نفسه قراءة النصوص الأخرى التي تتداخل معه بطريقة أو أخرى. وتقود هذه "القراءة الطباقية" إلى مقاربات عميقة للنصوص بعيدًا عن التناول الجزئيّ المتشظيّ الذي لايفيد في تحليل النصوص الأدبيّة والثقافيّة. لقد أخضع إدوارد سعيد أوبرا "عايدة" للإيطاليّ فيردي إلى هذه القراءة الطباقيّة، والمعروف أنَّ فيردي أنجز تأليف هذه الأوبرا في سنة واحدة فقط(هي أوائل 1870_1871م) بأمر من الخديوي إسماعيل بمناسبة الاحتفال بافتتاح قناة السويس، في وقت كان فيه الخديوي يطمح لأن يصبح إمبراطورًا على إفريقيا وأن تصبح مصر قطعة من أوروبا، وكان يجتهد في جعل القاهرة نسخة مطابقة لباريس آنذاك حتى في التخطيط العمراني. ربط إدوارد سعيد موسيقى "عائدة" لفيردي بطبيعة سياق الإمبراطورية الأوروبية(الإمبريالية) آنذاك، وقرأ نص فيردي في الوقت نفسه مع نصوص أخرى كولونيالية مثل الكتاب الضخم الذي أنجزه بعض علماء الحملة الفرنسية على مصر وهو كتاب "وصف مصر" بأجزائه المتعددة، من تحرير جي دي شابرول.

قبل سنوات اشتكى المنظر البنيويّ الفرنسيّ تزفيتين تودوروف في كتابه"الأدب في خطر" من مناهج تدريس الأدب في المدارس الثانوية الفرنسيّة(البكالوريا)؛ ذلك أن الطالب الفرنسيّ وبسبب تلك المناهج شديدة التعقيد يبدو منغمسًا في محاولة فهم تحليل النصوص بتعقيداتها الإجرائية، أمَّا النص سواء أكان قصيدة شعرية أو رواية أو مسرحية فإنَّه لا يلتفت إليه ولا يعرف علاقة تمثيلاته الثقافيّة بحياته، ولذلك ينصرف الكثير من الطلاب في هذه السن عن قراءة النصوص. اعترف تودوروف وهو البنيويّ العتيد بخطأ المناهج المغلقة التي تجرد النص من سياقاته الثقافية، ودعا إلى أن يقرأ طلاب المدارس في هذه المرحلة الغضة من عمرهم النصوص بعيدًا عن شروحها وتأويلاتها المعقدة، وأن يستمتعوا بجمالياتها الثقافية وأن يتمثلوها في حياتهم. أمّا مرحلة الشروح والمناهج فهي ستكون تالية في المرحلة القادمة (المرحلة الجامعية).

هناك خلل كبير في عدد كبير من الجامعات العربية في مناهج تدريس الآداب والعلوم الإنسانية، وذلك بسبب شيوع النظرة التجزيئية في التدريس؛ فيكون الطالب أمام مجموعة محددة من النصوص الأدبية لا يعرف في الغالب علاقتها بإطارها الفلسفيّ والثقافيّ الكبير الناظم لها. وهذا أمر خطير جدًا يحول دون إكساب الطلاب المعرفة النقدية الحقيقية التي يحتاجونها حتى في حياتهم الشخصية. وبسبب غياب مقررات "الفلسفة" والدراسات الثقافيّة التي هي أساس اليوم في مناهج الجامعات الغربيّة، لا يحصل طلاب الآداب والعلوم الإنسانيّة في كثير من جامعاتنا العربيّة، باستثناء عدد قليل منها، على التكوين الثقافيّ الذي يؤهلهم لمعرفة مكانهم من عالم حافل بالتحولات الثقافيّة الكبرى ومعرفة مكانهم من هذا الكون.

أدعو إلى إعادة النظر في مناهج تدريس الآداب في جامعاتنا العربيّة بالالتفات إلى الدراسات الثقافيّة وتعميقها في هذه المناهج بما في ذلك "القراءة الطباقية" التي دعا إليها إدوارد سعيد، وأدعو كذلك إلى الالتفات إلى تدريس الفلسفة وجعلها مقررًا إجباريًا لطلاب الآداب في هذه الجامعات. بذلك سنحصل على باحثين حقيقيين يشتغلون على معرفة حقيقية إنسانية عميقة، وبإمكانهم تطوير مستوى الاشتغال النقدي العربي للوصول إلى العالميّة. وفي هذا السياق أشيد بالمفهوم الثقافيّ العميق الذي تأسّس عليه "متحف لوفر أبوظبي" الذي يُعد من وجهة نظري واحدا من أذكى المتاحف العالميّة، من خلال اشتغاله العميق على أطر فلسفيّة وثقافيّة تنظر إلى مفهوم القراءة الطباقيّة لآثار العالم ومنتجاته الثقافيّة التاريخيّة على مر العصور: متحف على غاية شديدة من الذكاء يحرِّض على التحليل والقراءة والموازنة والتأويل!