متدينون من طائفة الحرديم في مواجهة الشرطة الإسرائيلية (أرشيف)
متدينون من طائفة الحرديم في مواجهة الشرطة الإسرائيلية (أرشيف)
الأحد 14 يوليو 2019 / 19:30

أعقد وأبعد من باص يقل مواطنين إلى الشاطئ...

للوهلة الأولى، لا يثير الخبر الذي نشرته جريدة "يديعوت آحرونوت"، يوم الجمعة الماضي، تداعيات أبعد من دلالته المباشرة، ولا يحرض، أغلب القراء حتى في إسرائيل نفسها، على التنقيب في الذاكرة التاريخية عن كيف ولماذا نشأ الانقسام الديني العلماني، في المجتمع الإسرائيلي.

مسألة الصراع العلماني ـ الديني في المجتمع والسياسة الإسرائيليين، التي اختفت من المشهد في السنوات الأخيرة، أصبحت مُرشّحة للتحول إلى قضية مركزية في الانتخابات المُقبلة

يقول الخبر إن بلدية رمات غان قررت توفير مواصلات عامة يوم السبت لتمكين المواطنين من الوصول إلى الشاطئ، وأماكن الترفيه، بما فيها من مطاعم وحانات. وهذا القرار أغضب الساسة من ممثلي الأحزاب الدينية المتشددة الذين هددوا بإلغاء اتفاقية "الأمر الواقع"، التي تضمن التفاهم بين الأحزاب الدينية والعلمانية.

وفي معرض التعليق على خبر مماثل، ثمة ما يستدعي التفسير والتحليل. فقد تمكن ممثلو الأحزاب الدينية في البرلمان، ومجالس البلديات، وبالتوازي مع صعود تلك الأحزاب بالمعنى السياسي والأيديولوجي، من تمرير قوانين تكرس الالتزام "بحرمة السبت"، بما فيها حظر المواصلات العامة، وجرت محاولات حتى لفرض "حرمة السبت" على شركة الطيران الإسرائيلية.

للقوانين ذات الصلة، وما أصبح نوعاً من العرف والتقليد، الكثير من النفوذ في القدس، وفي مدن وبلدات مختلفة، ولكن مدينة تل أبيب، بحكم تركيبتها السكانية، وتاريخها، ظلت عصية إلى حد ما، على محاولات "الاختراق" من جانب المتدينين.

وبالنسبة لرامات غان، وهي امتداد لتل أبيب، تُعتبر المدينة من المراكز الهامة لتجارة الماس في العالم، وتتمركز فيها الكثير من الشركات العاملة في صناعة وتكنولوجيا المعلومات والتقنيات الحديثة.

وإلى جانب هؤلاء تقطن المدينة أعداد كبيرة من اليهود المتدينين، وأغلبهم يعمل في تجارة الماس، ولديهم شبكات حزبية ومهنية وعائلية مع يهود يعتنقون النظرة الدينية نفسها، ويعملون في تجارة الماس في عواصم أوروبية مختلفة.

وهم، بهذا المعنى، يشكّلون قاعدة مالية، وأيديولوجية، وسياسية، للمتدينين المتشددين في إسرائيل.

والواقع أن تعبير اليهود المتشددين ينطوي على سمات وخصوصيات تستدعي ضرورة التمييز. فاليهودية كديانة تضم ثلاث طوائف هي الإصلاحية، والمُحافظة، وكلتاهما ظهرت قبل قرنين، والأرثذوكسية.

والأخيرة هي وريثة اليهودية الحاخامية التي هيمنت على يهود العالم على مدار قرون طويلة. وهي، أيضاً، اليهودية المُعترف بها في إسرائيل.

لذا، يخضع اليهود الأميركيون، مثلاً، وأغلبهم يعتنق اليهودية الإصلاحية، لإجراءات صارمة من جانب المؤسسة الدينية الإسرائيلية، ولا يندر أن يكون بينها ممارسة طقوس معينة ليُعترف بهم "يهوداً كاملين".

من رحم الأرثوذكسية وُلدت الأحزاب الدينية، في أوروبا، ومنها انتقلت إلى فلسطين قبل قيام الدولة الإسرائيلية. واعتنق بعضها أيديولوجيا تمزج بين اليهودية الأرثوذكسية، والقومية الصهيونية، بينما حافظ البعض الآخر على الميراث التقليدي لليهودية الحاخامية، وهؤلاء هم ما يُطلق عليهم في التسميات الشائعة "الحريديم"، التي تعني "الأتقياء" في العبرية.

ويقبل أغلب هؤلاء الدولة الإسرائيلية كأمر واقع، ولكنه لا يمنحها شرعية دينية، وينقسمون إلى أشكيناز وشرقيين، يمثل الأوائل حزب يهودوت هتوراه، والشرقيين حزب شاس، والمهم أن هؤلاء، مع المتدينين القوميين، الذين يمثلهم الحزب القومي الديني، هم القوة الدافعة وراء تكريس "حرمة السبت"، وإحلال الشريعة اليهودية محل الكثير من القوانين السائدة في إسرائيل.

ورغم أن آباء الدولة اليهودية في فلسطين، وكبار منظري الصهيونية السياسية، كانوا علمانيين، وأن الصهيونية أفرغت اليهودية من مضمونها الديني، وحولتها إلى أيديولوجيا قومية، إلا أن حاجة هؤلاء للمتدينين، نجمت عن ضرورة إضفاء قدر من الأصالة، والعمق التاريخي، على دولتهم من ناحية، وتفادي استعداء شرائح واسعة من اليهود في العالم، من ناحية ثانية.

وأصبحت هذه الحاجة أكثر إلحاحاً بعد المحرقة النازية في الحرب العالمية الثانية، وفقدان الصهيونية للخزان البشري، الذي راهنت عليه، في أوروبا الشرقية والوسطى، وحاجتها لليهود الشرقيين، وأغلب هؤلاء كانوا متدينين ومُحافظين.

وفي هذا السياق تتموضع اتفاقية "الأمر الواقع"، التي وقعها بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية، والجناح العمالي السائد في الحركة الصهيونية، مع الأحزاب الدينية في 1947، أي عشية قيام الدولة، وفيها اتفق الطرفان على تقاسم الوظائف والمهام، على أن تكون الشؤون الدينية، والأحوال الشخصية، مثل الزواج، والطلاق، والوفاة، والميراث، إضافةً إلى التعليم الديني، من اختصاص المتدينين، وكل ما عدا ذلك من تشريعات وقوانين، من اختصاص الدولة ومؤسساتها.

كان المتدينون، في ذلك الوقت، وفي العقود الثلاثة الأولى من عمر الدولة، أضعف بالمعنى العددي، وبالوزن السياسي، من تحدي سلطة الدولة، أو محاولة التأثير عليها خارج ما رسمته لهم اتفاقية "الأمر الواقع".

ففي إسرائيل الخمسينيات، مثلاً، كانت توجد جمعية لمكافحة الدين. وهذا ما لا يمكن تصور وجوده في إسرائيل اليوم.
  
وبدأ صعود نجم المتدينين، ونفوذهم في التنامي، نتيجة حدثين مفصليين، هما هزيمة يونيو (حزيران) 1967، ووصول مناحيم بيغين إلى السلطة في 1977.

ويمكن القول بأثر رجعي إن نتانياهو وسياساته الشعبوية، وهي مزيج من القومية والدين، قد أفادتهم إلى حد كبير. ولعل في مجرد تهديد "الحريديم"، اليوم، بإلغاء اتفاقية وُقّعت قبل 72 عاماً، ما يدل على المسافة التي قطعوها في المجتمع والسياسة، ومدى ما أصبح لهم من نفوذ، بعد كل تلك السنوات.

أما لماذا غضبوا، وأصبحوا يهددون بإلغاء اتفاقية "الأمر الواقع"، فيعود إلى سبب مباشر يتمثل في ما عرضنا له في مقالة سبقت بعنوان "حجر ليبرمان"، الذي أفشل محاولة نتانياهو تشكيل الحكومة بعد الانتخابات الأخيرة، ويُهدد بإفشالها في انتخابات أيلول (سبتمبر) طالما لم يلتزم نتانياهو بفرض قانون الخدمة الإلزامية على طلاب المدارس الدينية.

وفي الحالتين، أي في انتخابات سبقت، وانتخابات لاحقة، يحاول ليبرمان تشكيل كتلة يمينية علمانية لكسب أصوات المزيد من الناخبين، بعدما أصبح مصير نتانياهو، الذي يسعى لكسب أصوات "الحريديم"، في يده.

ومن الواضح أن حجر ليبرمان نكأ أكثر من جرح، وأيقظ أكثر من ذاكرة.

وعلى خلفية هذا كله يمكن القول إن مسألة الصراع العلماني الديني في المجتمع والسياسة الإسرائيليين، التي اختفت من المشهد في السنوات الأخيرة، أصبحت مُرشحة للتحول إلى قضية مركزية في الانتخابات المُقبلة، مع كل ما ينطوي عليه الأمر من رهانات، وإعادة نظر في تحالفات قائمة، ومُحتملة، ومن قضايا وإشكاليات ثقافية وسياسية وأيديولوجية تمثل خطوطاً ساخنة للتماس في إسرائيل.

فالمسألة أبعد وأعقد من مجرد باص ينقل مواطنين إلى شاطئ البحر يوم السبت، وعنوانها الرئيس الصراع على هوية، وماهية الدولة الإسرائيلية.