أبقراط وقسمه (تعبيرية)
أبقراط وقسمه (تعبيرية)
الثلاثاء 16 يوليو 2019 / 20:38

هل يتذكر الأطباء قسمَ أبقراط؟

في بداية عهدها بحقيبة الصحة، أصدرت وزيرة الصحة المصرية د. هالة زايد قراراً وزارياً فريداً من نوعه، وغريباً على مسامع الشعب المصري، إن لمن يكن غريباً في المطلق.

أقول لأبنائنا الذين يقفون اليوم على أبواب كليّات الطب إن مهنة الطب ليست وجاهةً اجتماعية، لكنها وجاهةً أخلاقية وروحية. وعليهم أن يدركوا أن المريضَ ذكيٌّ بالفطرة

ينص القرار على إذاعة السلام الوطني لجمهورية مصر، يعقبه قسم الأطباء، عبر الإذعة الداخلية لكل مستشفى، في نهار كل يوم. وعُمم القرار في جميع مستشفيات مصر. لكن ذلك القرار قوبل بوابل من الاستنكار والاستخفاف والسخرية، من قطاعات عريضة من الشعب المصري، وتندر الكتاب في مقالاتهم بذلك التصريح، واصفين إياه "بالبدعة" و "الشوو" و"المنظرة" وغير ذلك من كلمات.

لكنني، على النقيض من ذلك، لم أستخف بذلك القرار المبتكر القدام من "خارج الصندوق". راقت لي الفكرة، وشعرت أن وراءه عمقاً تريدُ الوزيرة تكريسه في الأجيال الشابة من الأطباء، وربما في سائر الهيكل الطبي في المشافي من طاقم التمريض إلى الإداريين إلى السعاة إلى غير ذلك.

فذلك التكرار اليومي للسلام الوطني، وقسم الشرف الطبي، يحث القائمين على رعاية صحة الناس أن يرهبوا جانب المريض الضعيف حين يسمعون النشيد الوطني، وكأنما مصر بكامل جلالها تتوسط لهذا المريض وتنتظر خروجه سالماً معافى من تلك المستشفى. كما يعمل النشيد الوطني وقسم الأطباء على مخاطبة وجدان الطبيب، بشكل يومي، لئلا ينسى أمرين: واجبه تجاه وطنه، وواجبه تجاه أبناء وطنه، وذلك من خلال واجبه تجاه شرف رسالته، التي هي واحدة من أشرف الرسالات على الأرض، تخفيف آلام إنسان.

وفي مصر هذه الأيام، تتربع نتائج الثانوية العامة على رأس محاور الحديث في بيوت مصر ومقاهيها. ويكاد لا يخلو بيت من الحديث عن كليات القمة، أو هكذا يسمونها، مثل الطب، والهندسة، وهي حلم الأبناء، والبنات، ليس فقط في الثانوية العامة، بل، لسبب أو لآخر، نجدها مغروسه في أحلام طفولتهم، حتى قبل أن يعوا معناها.

فحين تسأل طفلاً، ذلك السؤال الفولكلوري الشهير: "عاوز تطلع ايه لما تكبر؟"، ستجد معظم الإجابات تحوم حول "دكتور!". والحقيقة أن ذلك الإجماع قد حيرني طوال عمري. ولم أفهم لماذا الطب والهندسة، هما "الحلم" لكل أسرة، حد غرسه في عقول الصغار، متناسين أن هناك مهناً لا تقل أهميةً عنهما وشرفاً مثل المُعلم الذي يُعالجُ "العقل"؟ وفي ظني أن معالجة العقل تفوق معالجة "الجسد".

ومع هذا تجد الدرجات العليا لكليات الطب، والدنيا لمعاهد المعلمين وكليات التربية! لكن الحال هكذا، ولا أظنه سيتبدل في الأفق القريب. ورغم أن الطبيب ليس هو الأعلى دخلاً، إن لم يكن من الفرائد النابغين في علمه، نجد الطالب يكد ويجد حتى يحصل على المجموع الأعلى الذي يضمن له تحقيق الحلم الخالد، أن يصير طبيباً.

ويظن الطبيب فور تخرجه أن المشوار، انتهى بعد صراعه مع سنوات الدراسة، بينما يقول الواقع إن الصراع يكون قد ابتدأ. صراع بين الأنا والضمير.

وفي "قسم أبقراط" الشهير، يقسمُ أبو الطب الإغريقي، من بين ما يقسم على ألا يقسو على أهل المريض، وأن يراعي حالة المريض المالية، وأن يقدم خدماته دون أجر لمريض فقير، أو غريب. لكن ما نراه من بعض الأطباء يخالفُ ذلك القسم، حتى أضحى القسمُ فولكلوريا غريباً ومادة للتندر.

فهناك طبيب يرسل مريضه لمعمل تحاليل أو أشعة باهظ التكاليف، لأن له نسبة عن كل حالة يرسلها. فإن سأله المريض عن معمل أرخص، زعم الطبيب أن نتائج المعامل الأخرى غير دقيقة وليست محل ثقته. وربما تمادى في استنزاف مريضه بأن يطلب تحاليل لا يحتاج المريض إليها، حتى تزيد عمولته.

وهناك طبيب يمنع عملية جراحية في مستشفى حكومي عام، ثم يستقطبها لمستشفى خاص باهظ التكاليف، حتى يحصل على أجر مضاعف، ضارباً بفقر مريضه وعوزه، عرض الحائط.

وهناك طبيب يصف لمريضه كمياتٍ هائلة من الأدوية، ربما لا يحتاجُ مريضه إلا ربعها، لأن له نسبة من شركات الأدوية التي يُصر الطبيب على الابتياع منها، مع وجود بدائل أرخص من إنتاج شركات دوائية أخرى.

ناهيك عن الجرائم الطبية الأخطر مثل سرقات الأعضاء، أو الإهمال في مراحل النقاهة، أو التعامل مع المريض بوصفه حالةً، وليس إنساناً.

وبالطبع، في مقابل أولئك الأطباء الذين نسيوا قسم أبقراط، وفي حاجة يومية لسماعه، علهم يتذكرون، هناك الأطباءُ الشرفاء الذين ليسوا بحاجة إلى سماع ذلك القسم النبيل، لأنه محفور في ضمائرهم، حتى صار نهجاً راسخاً في أرواحهم، غير قابل للخضوع للنزعات النفسية أو الهوى، أو الشهوات.

أود أن أقول لأبنائنا الذين يقفون اليوم على أبواب كليات الطب، إن مهنة الطب ليست وجاهةً اجتماعيةً، لكنها وجاهة أخلاقية وروحية. وعليهم أن يدركوا أن المريضَ ذكي بالفطرة، وقادر على استشعار ضمير الطبيب مهما كان خفياً.

 فإن خُدع مريض من طبيب مرةً، فإنه لا يعاوده مرة أخرى، ويصيرُ آلة دعايا ضديةً لذلك الطبيب غير الأمين. فيخسر على المدى البعيد مرضاه ويقل رصيده في البنوك، بعدما خسر ضميره وقل رصيده عند الله وفي محكمة الضمير.

أيها الأطباء القادمون إلينا، كونوا وجهاء الروح والضمير، فإنكم يدُ الله الرحيمة في الأرض.