الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (أرشيف)
الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (أرشيف)
الأربعاء 17 يوليو 2019 / 18:10

مؤامرة وسجن

في عام 1846 تعرّف دوستويفسكي على طالب مراهق ذي لحية سوداء يُدعى بيتراشفيسكي. كان بيتراشفيسكي يعتمر قبعةً ذات حواف عريضة كالتي يعتمرها المتآمرون. أحب دوستويفسكي ندوات الجمعة التي أقامها بيتراشفيسكي في بيته.

فشل دوستويفسكي، لحسن حظ الفن الروائي، في خلق أسباب معقولة وراء الجريمة

في الغرفة البسيطة بضعة كراسي عتيقة، ومنضدة، وأريكة، وشمعة واحدة تضيء الغرفة. لم يكن بيتراشفيسكي يتصور أن تحاك مؤامرة ضد الدولة، وتتحدث عن الشعب، في وضح النهار، أو على أضواء قوية.

معالم المؤامرة لم تكن واضحة بعد في عقول مجموعة بيتراشفيسكي. كانت الصحبة، والثرثرة، والتدخين، واحتساء الشاي، أهم من معالم وتفاصيل المؤامرة. على حائط الغرفة، رفوف كتب، بعضها ممنوع. كان دوستويفسكي يتمنى قراءتها.

الحقيقة أن دوستويفسكي كان يكتب أكثر مما يقرأ، وفي رواياته تقتصر إحالات القراءة والاقتباسات، إلى حد كبير، على غوغول وبوشكين، وهي إحالات واقتباسات لا تجد لنفسها مكاناً جيداً أمام نهر الأحداث والأفكار والشخصيات التي تتدفق بوحشية من عقل دوستويفسكي.

بعد القبض على جماعة بيتراشفيسكي المتآمرة، أجاب دوستويفسكي في استجواب لجنة التحقيق، بأنه لم يجد شيئاً أكثر عبثية ولا معقولية، من التصور بأن تكون لروسيا حكومة ثورية، وجميع الذين يعرفونه، يعرفون رأيه في هذا الشأن.

صودرت ملابس المعتقلين، وأُعْطِيت لهم بدلاً منها، ملابس السجناء النظامية، قميص وبنطلون، ورداء من الجوخ الكثيف. هكذا بدا دوستويفسكي في سجنه، بالطبع إلى جانب نظرته العميقة، المريضة، التي ستزداد مع الزمن بعداً وغوراً، في محجريهما.

كتب دوستويفسكي إلى أخيه "يمر الوقت بشكل غير متساو، فتارة يمر أسرع مما ينبغي، وتارة يمر ببطء شديد. أشعر أحياناً كأنني اعتدت على هذه الحياة. إن كل شيء لدي سيان، لا أبالي، ولا أهتم بشيء. عندما تمطر السماء يصبح جو السجن كئيباً. تصورت ثلاث قصص وروايتين. يوجد في طبيعة الإنسان حيوية مدهشة".

"بالنسبة لي، لا أستطيع أن أقول شيئاً مؤكداً وموثوقاً، فما زال الجهل نفسه بقضيتنا، على حاله. حياتي رتيبة جداً، لكنهم سمحوا لي منذ بعض الوقت، بالتنزه في الحديقة التي يوجد بها 17 شجرة، وهذه النزهات أتاحت لي السعادة".

في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1849، حول الإمبراطور قضية بيتراشفيسكي إلى مجلس الدولة العام، الذي يحكم بموجب قانون استثنائي صارم. أصدر مجلس الدولة العام قراره بأن تشمل الجميع عقوبة الإعدام.

بعد ذلك أصدر الإمبراطور قراراً بتخفيف العقوبة، واستبدالها بعقوبة الأشغال الشاقة. كان نصيب دوستويفسكي من عقوبة الأشغال الشاقة، ثماني سنوات في سيبيريا. كتب الإمبراطور نيقولا الأول على هامش القرار "لمدة أربع سنوات فقط، وبعد ذلك يصبح دوستويفسكي في نصف مدة العقوبة الثاني، جندياً إلزامياً عادياً في الصف"، لكنه طلب أن يظل إجراء العفو والرحمة طي الكتمان.

في فترة بعد الظهيرة كان الحلاق يحلق رأس دوستويفسكي وشاربه ولحيته، وهي حلاقة تتم كل أسبوع. شفرة الحلاق لم تكن ماضية. كانت تكشط جلد دوستويفسكي وتدميه. اتفق دوستويفسكي مع محكوم آخر بالسجن، لديه شفرة ماضية، أن يحلق له مقابل كوبيك واحد، لكل حلاقة.

كتب دوستويفسكي فيما بعد في روايته "ذكريات من منزل الأموات، قائلاً "لم يكن أحد هناك يستطيع أن يُدهش أحداً. لدى أولئك الأموات الأحياء، كان اختلاف وتنوع الجرائم، شبيهاً بتنوع الأجناس والأعراق. هناك الشركس، واليهود، والمغول، والأوكرانيون، والبولونيون، والمسكوفيون، واللصوص ومزورو النقود، والقتلة العاديون، وقاتلو الوالد والوالدة، والمحكومون السياسيون".

قرر دوستويفسكي كسب ود المجرمين الجنائيين، اتقاءً لشرهم، وبنية حسنة، حاول أن يتشبه بهم، وأن يقبل أفكارهم، لكن المساجين الجنائيين، أخذوا يقدرون أنه تجاوز الحد، لأنه يتسول صداقتهم، وهذا يعني أنه لا يستحقها. وفي يومٍ استاء المساجين من الطعام الذي يُقدم لهم، فقرروا أن يتقدموا بشكوى، وصاح واحد منهم بقسوة على دوستويفسكي: "ماذا تفعل هنا؟ انظروا إلى قاتل الذباب. أنت مع ذلك تأكل حصتك من اللحم في المطبخ".

عمرت بعد ذلك روايات دوستويفسكي بالقتلة، لكنهم قتلة أصحاب رؤى وهلاوس وأفكار، ورغم قسوة جرائمهم إلا أن خليطاً مزعجاً من البراءة، والجنون كان يُحرك أفعالهم.

وفشل دوستويفسكي، لحسن حظ الفن الروائي، في خلق أسباب معقولة وراء الجريمة، ولمقارنة البون الشاسع بين أسباب الجريمة المعقولة، والجريمة اللا معقولة، ضع جريمة هيتشكوك في كفة، وجريمة دوستويفسكي في الكفة الأخرى.