السبت 20 يوليو 2019 / 21:18

الجبرية تدمر أبناءنا

الأفضل للإنسان أن يتحمل مسؤوليات نفسه، فلا يلقي باللوم على أحد، ومن الأجدر به أن يُقبل على الحياة بروح متفائلة فاعلة لا تقبل بأن تكون مجرد ردة فعل

لا تزال تصدمني نظرة كثير من الشباب في منطقتنا لحياتهم، فهناك شعور عام بفقدان السيطرة وإحساس الفرد بأنه مجرد ريشة في مهب الريح لا يملك من أمره شيئاً ولا هو من يصنع مستقبله ولا هو من يكتب نوتته ولا هو من يغني ألحانه، من أين أتى هذا الإحباط؟ هل للإنسان إرادة حرة؟ هذه القضية كانت ولا زالت موضع دراسة بين يدي علوم شتى، فقد اشترك في دراستها اللاهوتيون والفلاسفة وعلماء الأخلاق وعلماء النفس والاجتماع والإنثروبولوجيا والقانون والبيولوجيا، وكذا علماء الطبيعة.

في الإسلام، نعلم أن الفِرَق قد انقسمت في هذه القضية إلى، جبرية وقدرية، وفي كل الأديان هناك جبرية ومعتزلة، وفي كل الأديان هناك ألوان قوس قزح تتدرج بين القول بالجبر وبين القول بالحرية، وأكثر هؤلاء يميلون للجبر برغم ادعائهم التوسط. الجبرية هم الذين لا يؤمنون بحرية الإنسان ويرونه ريشة في مهب الريح، فكل شيء من الله لدرجة أنهم قالوا بأن الحجر لا يكسر الزجاج من نفسه وإنما بقدرة إلهية تتجدد كلما رمى طفل بحجر، بدون نظام مطرد ولا قوانين طبيعية ولا سببية، وبالتالي ليس للإنسان دور حقيقي في صناعة مصيره. في الطرف الآخر يقف القدرية، وهؤلاء هم أسلاف المعتزلة الذين يقوم مذهبهم على العقل، ويعتقدون أن الله قد خلق الإنسان ثم ترك له تقرير مصيره وجعله مسئولاً عن كل تصرفاته ولم يُجبره على إيمان ولا كفر ولا خير ولا شر بعد أن أعطاه حرية الأفعال الاختيارية، إذ كيف يمكن أن يكون الإنسان مسئولاً محاسَباً مطالًباً بتكاليف وشرائع وحلال وحرام، وهو ولا يملك حرية الاختيار؟!

ثم أتى العلم الحديث في القرن السابع عشر فانتصر بدوره لمذهب الجبرية. اكتشاف القوانين العلمية قد أدى إلى التحكم في سلوك الأشياء المادية، ثم تدرج إلى التحكم في سلوك النجوم والكواكب، وأصبح ينظر للكون في عصر السير إسحاق نيوتن على أنه آلة ضخمة أو ساعة محكمة الدقة لا تخرج عن نظامها قيد أنملة، لكن لم يندرج الإنسان في هذا النظام إلا عندما جاء تشارلز دارون وكشف العملية المنتظمة الكبيرة التي تتحكم في أشكال الحياة ذاتها وتسيطر عليها برمتها، هنا بدأت هيمنة الحتمية ووصلت سيادة مبدأ السببية إلى أقصى مدى، وطرح السؤال عن إمكانية خضوع الأفعال البشرية لقوانين الطبيعة نفسها، فكانت النتيجة أن البيولوجيا أقرت بهذا وثبتت أركان المذهب الجبري، ولم يزد سيغوند فرويد ومدرسة التحليل النفسي إلا التأكيد على غياب الحرية وخضوع الإنسان لرغباته الجنسية المكبوتة.

مع هذا، لم يستطع كل هؤلاء العلماء أن يقنعوا الإنسان بأنه أسير للظواهر الطبيعية وبقي هناك أحساس ضئيل بالحرية، يدعمه إحساس عميق بغياب العدالة في المعادلة المادية الجبرية. نحن نؤمن بأن الطبيعة مطردة وأن كل ما يحدث ناتج عن مجموعة من العلل والظروف التي تفسر ما يحدث، ونؤمن بأن أفعالنا تصدر عن طبيعتنا الموروثة بعد أن تقوم البيئة بتعديلها، لكن إذا كان كل ما يحدث يحدده سياق خاص، فلماذا لا نقول بأن أفعالنا تتحدد بواسطة سياقها. هل يمكن للفعل الحر أن يحدد تحديداً سببياً ويظل حراً في نفس الوقت؟ هذا ما أجاب به المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "الجبر الذاتي" فسلوك الإنسان محدد تحديداً سببياً بقوى نابعة من طبيعته الخاصة، قوى داخل الإنسان نفسه أو هي الإنسان نفسه، وهنا لا تكون الحرية والجبرية ضدان، وإنما تكون الحرية نوعاً من التحديد الذاتي أو الجبر الداخلي، وهنا يصبح الإنسان مسئولاً عن أفعاله الإرادية لأنها ترتبط ارتباطاً سببياً بمقدمات معينة تقوم في طبيعة تكوين الإنسان الفاعل نفسه، ما دام أن هذه الأفعال تعبر عن طبيعة الفاعل وتحقق ذاته. وهي في نفس الوقت حرة لأنها ليست نتيجة حتمية لشيء آخر خارج طبيعة الإنسان.

وبمقدر ما يكون الفاعل مكتفٍ بذاته في تفسير الفعل الإرادي فهو حر إلى هذا الحد في هذا الفعل. إلا أن جواب د. زكي نجيب يبدو لي ناقصاً رغم الجهد الممتاز الذي بذله لتخفيف أغلال الجبر، وإيمانه العميق بحرية الإنسان. الإنسان ليس ساعة تأخذ نظامها من داخلها، هذا هو معنى الجبر الذاتي عنده، بل في الإنسان قدر أكبر من الحرية وهناك ذاتية لا تخطئها العين، وهناك اختيارات نقوم بها قد تكون بسبب المزاجية أو حتى الحماقة وليس لها من سبب داخلي ولا خارجي. إذا علمنا هذا، فمن الحسن للإنسان أن يتحمل مسئوليات نفسه فلا يلقي باللوم على أحد، ومن الحسن أن يُقبل على الحياة بروح متفائلة فاعلة لا تقبل بأن تكون مجرد ردة فعل، ومن الحسن أن يدرك أنه لا يوجد واقع سيء، فما نصفه بالواقع هو شيء متغير في كل لحظة.