الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي.(أرشيف)
الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي.(أرشيف)
الأحد 28 يوليو 2019 / 19:21

ميراث السبسي ووصيته الأخيرة..!

الوصول إلى بر الأمان، على الصعيد الاجتماعي، يستدعي وجود حلول تتصف بالديمومة لتجاوز المصاعب الاقتصادية، كما يستدعي الوصول إلى بر الأمان، على المستوى السياسي، إرساء اللعبة السياسية

ودّعت تونس رئيسها الباجي قايد السبسي في جنازة رسمية مهيبة. ورغم أن رحيله كان متوقعاً، خاصة بعد تدهور حالته الصحية في الآونة الأخيرة، إلا أن إعلان وفاته أثار تحليلات وتعليقات كثيرة بشأن ميراثه وما سيبقى منه، ومستقبل البلاد ونظامها السياسي.

ولعل أوّل ما لا يختلف عليه اثنان: أن تاريخ السبسي وثيق الصلة بتاريخ الدولة التونسية بعد الاستقلال 1956. فالمهام الرسمية التي شغلها تدل على حضوره الفاعل في تاريخها على امتداد فترة تزيد على ستة عقود، تولى خلالها مناصب حكومية رفيعة من بينها وزارة الداخلية، رئاسة الوزراء، وزارة الخارجية، رئاسة البرلمان، إضافة إلى العمل كسفير في فرنسا لفترة من الوقت. وقد توّج هذه المسيرة برئاسة الدولة نفسها في السنوات الأخيرة من حياته.

وثاني ما لا يختلف عليه اثنان: أن السبسي كان رجلاً وفياً، بالمعنى السياسي والأيديولوجي، وحتى الإنساني، من رجال الحبيب بورقيبة، القائد التاريخي للحركة الوطنية، الذي انتزع استقلال البلاد من الفرنسيين، وتولى رئاسة الدولة فترة تزيد على عقود ثلاثة، تمكّن خلالها من ترك بصمة دائمة على هوية الدولة، ومؤسساتها، وكذلك على هوية المجتمع وثقافته.

وفي سياق كهذا، لم يكن من قبيل الصدفة أن يضع السبسي صورة لبورقيبة في مكتبه في قصر قرطاج، بعدما أصبح رئيساً للجمهورية، ولا كان من قبيل الصدفة أن يسعى لتمرير تشريعات تُسهم في تحسين الوضع القانوني للنساء، مثلاً، إذا وضعنا في الاعتبار أن قضايا النساء كانت من أولويات بورقيبة، الذي افتتح عهده بعيد الاستقلال بمدوّنة الأحوال المدنية.

وفي سياق كهذا، أيضاً، لم يكن من قبيل الصدفة، وهذا هو الأهم، أن يعود إلى السياسة، التي غادرها بعد عام من العمل كرئيس للبرلمان، في عهد الرئيس بن علي، وأن يخوض الانتخابات التشريعية والرئاسية بحزب جديد للحيلولة دون سقوط تونس في قبضة الإسلاميين، الذين نجحوا بعد سقوط بن علي في العام 2011، في تنصيب المنصف المرزوقي رئيساً، وقد كان واجهة لهم في قصر قرطاج. ولا كان من قبيل الصدفة أن يحصد السبسي نسبة كبيرة من أصوات النساء في تلك الانتخابات.

وثالث ما لا يختلف عليه اثنان: أن الرجل عاد إلى معترك السياسة في فترة بالغة الحساسية في تاريخ تونس، بعد الإطاحة ببن علي، وفي ظل ما ساد البلاد من فوضى، وتشتت القوى، وتعددية الخيارات بحثاً عن خارطة آمنة للطريق.

وقد تمكّن، رغم تقدّمه في السن، بكل ما تراكم لديه، على امتداد عمر طويل، من خبرات ومهارات، من تجنيب البلاد خطر الوقوع في درك الحرب الأهلية، كما نجح في إعادة الاعتبار إلى مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، واتبع سياسة التوازنات والتسويات، لتعزيز قواعد اللعبة الديمقراطية، وتمكين البلاد من عبور المرحلة الانتقالية بأقل قدر من الخسائر والجراح.

وثمة ما يبرر التذكير، في هذا الصدد، بحقيقة أن المرحلة الانتقالية لم تصل، بالمعنى الاجتماعي والسياسي، إلى بر الأمان بعد. فالوصول إلى بر الأمان، على الصعيد الاجتماعي، يستدعي وجود حلول تتصف بالديمومة لتجاوز المصاعب الاقتصادية، كما يستدعي الوصول إلى بر الأمان، على المستوى السياسي، إرساء اللعبة السياسية، بين مختلف القوى، على قواعد تتصف بالديمومة. وفي الحالتين، فإن إنضاج ما توفّر من حلول في الوقت الحاضر يحتاج عامل الوقت، كما يحتاج اجتياز أكثر من اختبار، وتجاوز أكثر من عقبة.

ولعل ابرز العقبات، في هذا الصدد، خطر الإرهاب الذي يتهدد تونس، ويسعى لتقويض مواردها الاقتصادية من خلال ضرب السياحة، التي تمثل مصدر دخل رئيس، وإشاعة عدم الاستقرار لزعزعة ثقة الناس بمؤسسات الدولة. وعلى جانب آخر، تظل نوايا الإسلام السياسي، من إخوان وغيرهم، غير مأمونة، ولا مضمونة، ولبعض هؤلاء خطوط مفتوحة مع الإرهاب ورعاته ومموليه. وقد تكون لتناحر القوى السياسية، التي تمثل حائط صد في وجه الإسلام السياسي، والإرهاب، وفشلها في توحيد الصفوف، عواقب لا تحمد عُقباها.

وعلى خلفية كهذه تتجلى أهمية الباجي قايد السبسي، الذي رسم في المرحلة الأخيرة من حياته، معالم لخارطة طريق تقود البلاد إلى بر الأمان. هذا ميراثه، وتلك وصيته الأخيرة، وكلاهما صمّام أمان إذا ما أحسنت مختلف القوى السياسية في تونس قراءة الميراث، وصيانة الوصيّة.