السبت 3 أغسطس 2019 / 18:56

السعادة كمُنتج بيولوجي

كثيراً ما نتجاذب مع الأصدقاء الحديث حول أسباب السعادة والتعاسة، وأحياناً نسمح لأنفسنا أن نتحدث باسم غيرنا بمعاييرنا وآرائنا الشخصية دون أن يكون ما نفترضه في غيرنا صحيحاً كما تقول نظرية "نفق الواقع" reality tunnel، فنظن أن كل من يكدح 12 ساعة يومياً في عمله تعيساً، وكل من يكدح أمام التلفاز 12 ساعة يومياً على أريكته سعيداً، وأن كل مليونير يطفح دماغه بهجة ورضى، وكل فقير يلعن يومه سخطاً وكمداً... لكن ذلك كله قد لا يكون صحيحاً، فالسعادة نسبية، وتختلف باختلاف الأشخاص والثقافات والاهتمامات، فأنت قد يسعدك كتاب وغيرك قد يتعسه نفس الكتاب، غيرك قد يسعده رسالة الراتب في آخر الشهر وآخر قد تتعسه الملايين المتراكمة في حسابه البنكي، غيرك تكمن سعادته في القناعة وإيجاد المعنى فيما يملك، بينما آخر يجد سعادته في السعي نحو ما لا يملك.

هذا ما نلمسه من نتائج الأبحاث الكثيرة التي قد تصدم بعضنا حين يكتشفون أن كثيراً من أصحاب الثراء الفاحش قد يفتقدون السعادة رغم المساكن الفارهة والطلبات المُجابة والحياة المريحة التي لا شقاء فيها ولا كد، أما الأقل مالاً فقد يكونون أكثر سعادة مالم يكن فقرهم قد وصل إلى حد الحاجة الخانقة، قد يشعر مُعاق معوز -محاط بشريك حياة مُحب وعائلة مُخلصة ومجتمع مريح- بشعور أفضل من ملياردير مغترب، طالما أن فقر ذلك المعاق ليس بتلك القسوة الشديدة وأن مرضه ليس مؤلماًً، أحياناً لا يجد الغني سعادة إلى إذا استخدم ماله في تخفيف الأعباء المادية على غيره، فالمال في حوزته ليس سوى سبائك جامدة لا تعني شيئاً مالم يرى أثرها على من حوله وهم يشكرونه ويقدرونه ويحترمونه.

إذن ما هو سبب السعادة؟
دعونا نتفق أولاً أن السعادة هي استجابة بيولوجية وكيميائية داخل أجسامنا مرتبطة بإفراز هرمونات يسميها البعض هرمونات السعادة؛ كالسيروتونين والإندروفين والدوبامين والأوكسيتوسين؛ نجح الطب الحديث في استثمار هذه النظرية من أجل كبح مرض الاكتئاب باستخدام أدوية تزيد من معدلات هرمون السعادة -كالسيروتونين- فيتحسن مزاج الإنسان وتزيد بهجته. ليس هنا مكان تفصيل سبب ارتفاع كل واحد من هذه الهرمونات لكن في المجمل يتحدث العلماء في أبحاثهم عن الإيمان بالله والرياضة والشوكولاته والتفكير الإيجابي والاستقرار الأسري والشعور بالحب وغيرها.

في كتاب "العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري"، تحدث "يوفال نوح" عن أن سعي الإنسان إلى حياة أكثر رفاهية قد أنتج له معاناة أكبر، فالجامعة والزواج والرفاهية تتطلب قروضاً ضخمة وعقارات في الضواحي وأسفار لا آخر لها، وهذا سيتطلب مضاعفة الجهد والمشقة، وبمجرد التعود على رفاهية معينة، فإنها ستعتبر أمراً مضموناً لا يمكن العيش بدونه، وهكذا تدور الحياة فنسقط في خط الرفاهية كما سقط أجدادنا في فخ الثورة الزراعية والذي تطلب مجهوداً أكبر لرعاية القمح وحمايته وزيادة في السكّان والرفاهية مع زيادة أخرى في الجهد والمشقة والأمراض المعدية واللصوصية ودواعي الحراسة.

قديما قال المسيح في الإنجيل (إن الفقراء عندكم في كل حين)، واليوم لا يتضور معظم الناس من الجوع حتى الموت، بل قد يتعرض الناس لخطر الموت من السمنة أكثر من خطر الموت من الجوع، ورغم ذلك ما زالوا يبحثون عن السعادة التي قد تكون أكثر حضوراً في الأعوام الماضية رغم كونها فترات ملأتها الحروب والمآسي والأمراض والحرمان.

السعادة لا تتلازم مع النشوات المؤقتة التي يجدها البعض في الجنس الجامح أو المواد المُخدرة أو المُقامرة، فأحياناً يصير الباحث عن السعادة باحثاً عن نشوات خادعة تضله عن حقيقة السعادة.

في المستقبل القريب قد يتمكن الطب من وضع مُهيجات السعادة في كبسولة تغمر الجسد بهرمونات السعادة... لكن هل فعلاً سنكون سعيدين بسبب الكيمياء فقط؟ أم أن السعادة أكبر من ذلك كله؟