السبت 3 أغسطس 2019 / 19:21

براعة الإخوان في نسج الأساطير عن القيادات والتدابير

يردد الإخوان أن سيد قطب حين طُلب منه أن يكتب استرحاماً إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر قال: "اليد التي سبحت لله لا يمكنها أن تكتب استرحاماً لبشر"، يقول الإخوان هذا في ثقة متناهية، مع أن قطب كان وقتها سجيناً، لم يسمعه أحد منهم، وبالطبع لم ينقل عنه حراس السجن شيئاً من هذا القبيل.
ذات مرة ردد قيادي إخواني هذا الكلام أمامي فسألته في هدوء:
ـ أين قرأته؟
أجاب:
ـ هذا أمر معروف لدينا في الجماعة، منذ أن كنا شباباً.
ابتسمت وقلت له:
ـ قطب كان سجيناً، وأخذوه من الزنزانة إلى المشنقة، ولم يسمعه أحد منكم.

على المنوال ذاته تتدفق على ألسنة كتبة تاريخ الجماعة وصانعي صور قادتها عبارات وإشارات ومواقف وأحداث لا تمت إلى الحقيقة بصلة، ولا تزيد عن كونها أساطير، لا يمكن أن تنطلي إلا على المتعجلين وضعاف العقول والسائرين من أتباع الإخوان كالقطيع خلف أفكار قياداتهم وتصرفاتهم.
ومن الإخوان امتدت صناعة الأساطير إلى سائر الجماعات والتنظيمات المتطرفة والتكفيرية والإرهابية فأضفوا على أنفسهم من الطباع والشمائل والخصال ما ليس فيهم، ونشروا كل هذا بين عموم الناس قاصدين أن يصورا قادتهم على أنهم من الصحابة، ويظهروا أنفسهم في هيئة جماعات ربانية ترعى السماء خطاهم، ولا يعرف الباطل ولا الخطأ إلى أقوالهم وأفعالهم سبيلاً.

وتقتات جماعة الإخوان وغيرها من التنظيمات الدينية المتطرفة على الأساطير، سواء في خطابها الطنان الرنان، الذي يجافي أي منطق عقلي أو برهان، أو في ممارساتها التي أنتجتها منذ انطلاقها عام 1928 وحتى اللحظة الراهنة.

فمن يطالع ما يكتبه أتباع الجماعة عن قادتها يكتشف للوهلة الأولى ما يلفهم من اختلاقات موضوعة بعناية، في سبيل أن تراهم قواعدها، بل المجتمع بأسره، على أنهم ليسوا كسائر البشر، إنما هم أولياء أنقياء كانت ولادتهم وتنشئتهم خارقة، وكانت تصرفاتهم واختياراتهم فوق النواميس.

تكفي نظرة فاحصة للسير الذاتية لقادة الجماعة الواردة في "موسوعة الإخوان" كي نرى أن من كتبها حرص على أن يضفي على تلك الشخصيات طباعا وصفات من العظمة والإخلاص والنقاء، وكيف كان كل ما يقولونه أو يفعلونه ترعاه السماء. فلحظات مولدهم، والتحاقهم بالتعليم، واختيارهم لزوجاتهم، وتربيتهم لأبنائهم، والقرارات التي يتخذونها في حياتهم الخاصة والعامة، لم تكن عادية، تخضع لقوانين البشر التي تعرف الخطأ والصواب، والانتصار والانكسار، والإقدام والإحجام، إنما هي مكللة طيلة الوقت بتوفيق تام، لا يمنحه الله إلا لمن يرفعون رايته، أو يتحدثون باسمه.

ويراد من هذا كله صنع صورة جلية عظيمة ناصعة للمرشدين المتعاقبين على قيادة الجماعة ولأعضاء مكتب الإرشاد، ولأمراء الجماعات والتنظيمات الدينية الساعية إلى السلطة وزعمائها، هي في حقيقتها ليست سوى شكل من أشكال الدعاية السياسية، ينسحب عليها ما هو متعارف عليه من احتفاء الدعايات بالاختلاق والكذب والتدليس ولي عنق الحقائق.

وفي التاريخ الذي كتبته الجماعة لنفسها يظهر مؤسسها على أنه شخص زاهد متجرد شجاع عبقري في التنظيم، مع أن المصادر التاريخية التي اتبعت النهج العلمي، تبين عكس ذلك.

وقد اختلق الإخوان كرامات، بل معجزات، عديدة لمؤسس الجماعة حسن البنا، أوردوها في كتبهم منها أن ثعبانا ضخما قد خر أمام البنا وتراجع عن لدغه، وهو طفل صغير ببلدته في المحمودية، لأن الله كان يدخره لهداية الأمة.

ويظهر منظر الجماعة سيد قطب على أنه رجل أبيُّ شجاع، يفضل المشنقة على استرحام الرئيس المصري جمال عبد الناصر، مع أن التحليلات السياسية والنفسية والأدبية التي تعاملت مع شخصية قطب والنصوص التي أنتجها لاسيما في الشعر والرواية وتصرفاته خلال الفترة التي أعقبت ثورة 1952 وحتى وفاته تؤكد أنه لم يكن كذلك. وتظهر قيادية إخوانية مثل زينب الغزالي على أنها قوية متماسكة تواجه في زنزانتها الكلاب المسعورة ورجالا غلاظا شدادا يريدون النيل منها، ونارا أضرمت حولها، وسياطا تلهب ظهرها، في صورة أسطورية، رأيناها أيضا في كل ما كتب عن سجناء الجماعة، وتنبه إليها العارفون فوصفوا الإخوان بأنهم "يكذبون كما يتنفسون".

وتتناقل قواعد الجماعة هذه الحكايات، ويزيدون عليها من عندهم الكثير، حتى يرى الأتباع القادة وكأنهم فوق البشر، وينجذب عموم الناس إلى هذه الاختلاقات فيتمكن الإخوان من تجنيد عناصر جدد من بينهم المشدودين إلى أساطيرهم، أو على الأقل تكسب الجماعة تعاطف هؤلاء معها.

وقد رأينا مرشد الإخوان د. محمد بديع، يتبع اسم سلفه مهدي عاكف بعبارة "رضي الله عنه"، ليجعله في مقام الصحابة. ومن فوق منصة رابعة انطلقت أساطير الجماعة على غرار نزول جبريل لمباركة الميدان، وتقديم الرسول للرئيس الأسبق الدكتور محمد مرسي عليه ليؤمه والناس في الصلاة، واستمر هذا بعد وفاة مرسي، رحمة الله عليه، حيث راحت قناة الإخوان تنسب إليه خطاباً بليغاً قاله قبل وفاته، ونصائح أطلقها من زنزانته، وهو أمر لا دليل عليه.

وتعي الجماعة بالطبع ما تفعله، مستفيدة من بعض ما جرى في التاريخ البعيد للمسلمين من صناعة أساطير، لا يزال كثيرون يرددونها دون أن يجلسوا ولو دقائق ليفكروا في مدى صدقها وتماسكها، ومستفيدة أيضا من القاعدة التي رسخها جوبلز مهندس دعاية النازي حين قال: "اكذب اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"، هادفة من كل هذا إلى الحفاظ على تماسكها، وترسيخ وجودها، وتعزيز تمددها وانتشارها، غير عابئة بما يقره الإسلام من أخلاقيات سامية ترفض الكذب والتدليس والخداع، وغير ملتفتة إلى أن نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام قد وصفه أهل زمانه بأنه "الصادق الأمين".

من الناحية الدينية فإن الاعتماد على نسج الأساطير في الإقناع والتمدد والانتشار لا يقره الإسلام. فقد وردت كلمة أساطير في القرآن الكريم تسع مرات، في مواضع تبين أن الله سبحانه وتعالى أجل وأعظم من أن يلجأ في كتابه المنزل لهداية الناس جميعا إلى توظيف الأكاذيب لجذب عرب الجاهلية إلى الإسلام، وهو يعلم أن القرآن سيقرأه آخرون سيأتون في أزمنة لاحقة.

ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة غافر: "إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب"، وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: أيكون المؤمن جباناً ؟ قال : ( نعم ) ، ثم سُئل: أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : ( نعم ) ، ثم سُئل: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال : ( لا ). ـ ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام "كن صادقاً فالصدق يؤدى إلى الصلاح، والصلاح يؤدى إلى الجنة. احذر الكذب فالكذب يؤدى إلى الضلال، والضلال يؤدى إلى النار".

ويحضرني في هذا المقام ما ورد في كتاب "الأساطير المؤسسة للإسلام السياسي" حيث يقول مؤلفه الأستاذ المصري صلاح سالم " هناك إدعاءات كبرى يلبسها الإسلام السياسي رداء القدسية الزائفة، كالدولة الشرعية، والهوية المغلقة، والمؤامرة الغربية، وأخيرا نزعة الجهاد العسكري، التي استحالت وسيلة وحيدة دموية للرد على الأزمة الحضارية للأمة، وللانتقام ممن يرفضون خياراته لحلها، سواء من داخل مجتمعات إسلامية يراها فاسقة أو من أخرى يعتبرها كافرة، فكلتيهما لديه جاهلية، بهذا القدر أو ذاك".