الرئيس الفلسطيني محمود عباس مترئساً اجتماعاً للقيادة الفلسطينية.(أرشيف)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس مترئساً اجتماعاً للقيادة الفلسطينية.(أرشيف)
الأحد 11 أغسطس 2019 / 19:28

مأزق اللحظة الراهنة: البقاء أم الخروج؟

حل السلطة لا يعني أن كل شيء سيعود إلى ما كان عليه قبل العام 1993، فقد مرّت مياه كثيرة تحت الجسر، كما يُقال

لم يبق الكثير من اتفاقات أوسلو، التي شكّلت قاعدة للاعتراف المُتبادل، والمفاوضات، بين منظمة التحرير وإسرائيل، ونشأت بموجبها السلطة الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبُنيت عليها من جانب الفلسطينيين، والكثير من الفاعلين في العالم العربي، والعالم، رهانات إنشاء دولة فلسطينية. وغالباً ما اختُزلت هذه الأشياء كلها في تعبير "عملية السلام" في الشرق الأوسط، على مدار ما يزيد عقدين ونصف العقد من الزمن.

وهذا كله يبدو، اليوم، في مهب الريح. فالاتفاقيات المعنية، حتى وإن لم يُعلن أحد من أطرافها الرئيسة موتها بصورة رسمية، فقدت الكثير من مقاصدها، ومضامينها الأصلية، وأصبحت مجرّد هيكل يخلو شيئاً فشيئاً، في ظل الابتزاز الإسرائيلي، من الفاعلية والجدوى.

وأكثر الأطراف إدراكاً لهذه الحقيقة هم الفلسطينيون أنفسهم. وهذا ما يُشكّل، في الواقع، المبرر الرئيس للسلطة الفلسطينية، التي دعت في أكثر من مناسبة إلى تجميد، واحياناً، وقف العمل بما نصت عليه الاتفاقيات المعنية من التزامات في مجالات مختلفة أمنية، وسياسية، واقتصادية. وثمة الكثير من المواقف العلنية، والمُضمرة، في هذا الصدد.

ومع ذلك لم تقدم السلطة الفلسطينية، حتى الآن، على الخطوة النهائية والحاسمة، وآخر ما تجلى، في هذا الشأن، الدعوة إلى تشكيل لجان مختصة لدراسة كيفية تطبيق التنصل من الالتزامات، بما فيها الاقتصادية، والأمنية، بطريقة عملية على أرض الواقع.

ولا ينبغي التقليل من أهمية دراسة هذا الأمر بعناية فائقة، أو بميزان الذهب، كما يُقال. فإسرائيل، التي فعلت وتفعل كل ما يتنافى مع التزاماتها الأصلية في اتفاقيات أوسلو، لم تعلن الانسحاب من أوسلو بطريقة رسمية. والسلطة الفلسطينية لا تستطيع الإقدام على خطوة كهذه دون حسابات كثيرة ومعقدة لأشياء مختلفة، بما فيها مصيرها. فقد تكون نتيجة التنصل من أوسلو حل السلطة نفسها، أو انهيارها بطريقة أو أخرى.

وقد تكررت من جانب بعض الفلسطينيين، في مناسبات مختلفة الدعوة إلى حل السلطة، والعودة بالوضع إلى ما كان عليه قبل أوسلو، أي تحميل مسؤولية إدارة المناطق المحتلة لسلطة الاحتلال الإسرائيلي، بكل ما يعنيه الأمر من أعباء أمنية، واقتصادية، وسياسية.

ومع ذلك، ثمة الكثير من التعقيدات، ولا ينبغي تبسيط مجازفة كهذه حتى في أكثر اللحظات سوداوية. فحل السلطة لا يعني أن كل شيء سيعود إلى ما كان عليه قبل العام 1993، فقد مرّت مياه كثيرة تحت الجسر، كما يُقال.

وثمة أشياء تتعلّق بالاعتراف الدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية، كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، لا في الأراضي المحتلة وحسب، بل وفي كل مكان آخر. والسلطة الفلسطينية لم تنشأ، بصرف النظر عن أخطاء وخطايا أوسلو، إلا كتتويج لذلك الاعتراف، وكثمرة لكفاح الفلسطينيين من أجل الاستقلال، وتقرير المصير، على مدار عقود طويلة.

فهل ستعود منظمة التحرير إلى ما كانت عليه قبل العام 1993، بكل ما لأمر كهذا من دلالات إقليمية ودولية، وما يتصل بحضورها وفعاليتها في الحقل السياسي الفلسطيني نفسه؟ وهل سيعود المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة إلى ما كان عليه عشيّة العام 1993، أم ستسعى إسرائيل لتمزيق النسيج الاجتماعي، على نفس الخطوط التي مزّقت بها النسيج الديمغرافي في الضفة الغربية؟ وهل سيتمكن الفلسطينيون من عبور الفترة الانتقالية، أي ما بعد السلطة، موّحدين وبطريقة آمنة تضمن دحر الاحتلال؟

لا ينبغي التقليل من شأن وخطورة أسئلة واحتمالات وسيناريوهات كهذه. اللحظة التي يعيشها الفلسطينيون، شعباً وقضية، حرجة للغاية في الوقت الحاضر، ولأنها كذلك فإن كل خطوة في هذا الاتجاه أو ذاك يُجب أن تُقاس بميزان الذهب، فقد تكون للخطأ في الحسابات، حتى وإن أشبع غرائز سياسية آنية، نتائج كارثية، وبعيدة المدى.

وبهذا المعنى، فإن تردد السلطة الفلسطينية في الحسم، في موضوع التزاماتها، يعكس أمرين: أولاً، حساسية اللحظة السياسية الراهنة، ومدى ما يسمها من تعقيد. وثانياً، الخوف من الإقدام، في لحظة كهذه بالذات، على خطوة قد تكون وخيمة العواقب. وفي الأمرين، معاً، ما يختزل حقيقة المأزق من ناحية، وطريقة التعامل معه من ناحية ثانية. ومن غير الواضح، حتى الآن، مدى ضيق أو اتساع المساحة المُتاحة للمناورة في هذا الشأن.