أحد مقاهي شارع الحمرا في بيروت.(أرشيف)
أحد مقاهي شارع الحمرا في بيروت.(أرشيف)
الخميس 15 أغسطس 2019 / 20:14

تلك الغرفة في بيروت

سأتذكر تلك الغرفة وأنا أقرأ "قسطنطين كفافيس" فيما بعد، وسأجدها في قصائد للتشيكي "فلادمير هولان"، نفس الغرفة وورق الجدران والملاءات والستائر بزخرفاتها الصفراء الثقيلة

لم تكن بيروت بالنسبة لي "الإسكندرية التي أفقدها"، كما تشكلت في مخيلة وكتابات الكثيرين ممن مروا عليها، كانت مدينة ملتبسة تماماً، ولكنها ذات سطوة وإرادة، مدينة قوية. وكانت مدينة أصدقاء، وسيبدو كونها عاصمة لبنان تفصيلاً في الحاشية، أفكر دائماً أن الصداقة تمنح المدن مساحات جديدة، وملامح إنسانية، ربما لهذا عندما عدت إليها بعد عقدين من الغياب لأتسلم جائزة الشاعر أنور سليمان برفقة غدي وأسامة الرحباني، لم أبحث عن شجرة أو لافتة أو إشارة ما لأهتدي إليها، كانت الخارطة التي أحملها بالغة البساطة، "عباس بيضون".

لولا "عباس بيضون" لما اهتديت للمدينة ولبقيت أدور في ذاكرتي بلا أعذار.

في الذاكرة يقف رجل مع حقيبة صغيرة في ممر قبو مجلة الحرية في دمشق، رجل يضحك ويسأل عني أنا عباس بيضون، قال الرجل، هكذا التقيت مع عباس للمرة الأولى والتي كانت إشارة بداية لصداقة حقيقية خالية من البلاغة والمجازات، إيقاع خاص كأنه سرد يتجمع.

ستتكاثف الإشارات بعد وصولي، سيصل "عبدو وازن" من "برمانا"، عبدو وازن الذي يحرك أفكاره بين يديه ويطلقها في الهواء وعلى طاولة المقهى، ثمة دائماً ما يمكن عمله، ما يمكن التقاطه من الفوضى، وسيبدو ضجراً من المدينة.

سيجلس "بول شاؤول" في مقعده الملاصق للرصيف على مقهى باريس في نوبة حراسة لمقتنيات عبث بها الوقت والمتطفلون، ولكنه في جلوسه الحيوي يذكر المارة والعابرين أن المدينة التي يبحثون عنها كانت هنا.

شوقي بزيع بين سفرتين ومواعيد كثيرة، نلتقي في أكثر من مقهى، لا يمنح شوقي ثقته لمقهى بعينه أو زاوية أو مائدة دون غيرها، ثمة موعد في المنعطف، موعد سيحدث بعد قليل.

سأجلس مع عناية جابر في حديقة وسنضحك.

المصافحة الأولى في بيروت كانت مع سيد محمود القادم من القاهرة والثانية مع ياسين عدنان القادم من الدار البيضاء، والثالثة مع فلسطينية زائرة. انتظرت حتى المصافحة الرابعة لألتقي بلبناني.

عندما وصلت بيروت قبل أربعة عقود سكنت في ستوديو مفروش خلف الجامعة الأمريكية، وصلت ليلاً دون حقيبة ودون خطة وبلا أموال تقريباً.

بدا الأمر كما لو أنني أنفّذ حلماً أو اتبع شارات وضعها آخرون.

ولكن ذلك الأستوديو الضيق بورق جدرانه المشجر والسرير المرتفع، الملاءات الملونة والستائر الثقيلة والضوء الأصفر الكامد الذي يمنح النباتات المرسومة على الجدران هيئة ظل كئيب، بدا وكأنها نبعت من ذاكرتي وتجسدت هنا بانتظاري.

سأتذكر تلك الغرفة وأنا أقرأ "قسطنطين كفافيس" فيما بعد، وسأجدها في قصائد للتشيكي "فلادمير هولان"، نفس الغرفة وورق الجدران والملاءات والستائر بزخرفاتها الصفراء الثقيلة، وسيكون هناك دائما حامل الشمع قرب السرير.

الغريب أن كل تلك المكونات المتنافرة والتي بدا أنها كانت تجري حديثاً طويلاً فيما بينها انقطع بمجرد دخولي من الباب، استطاعت خلال عزلتها الطويلة، الاستوديو بدا مهجوراً في لحظة دخولي، جمع الكثير من الظلال.

الأصوات التي كانت تصل من الزقاق وصلت منهكة وتعلوها طبقة من الغبار، لا بد أنها علقت بها وهي تحاول النفاذ من قماش الستائر، وفي لحظة ما تحولت إلى التكتم، تكتم سببته كثافة النسيج وعتمة الغرفة.

أصوات لن تصل إلى أبعد من ذلك، انتهت رحلتها هنا حيث ستعلق بين الستائر والملاءات إلى الأبد.

في درج الخزانة، خزانة من الخشب البني الغامق، وجدت أوراقاً وبطاقة وصوراً لشاب لم يتجاوز الأربعينات كما تشي صورته على البطاقة، بحثت عن الرجل في الصور الأخرى، معظمها لرحلات في الخلاء وعشاء يبدو عائلياً، ولكنه لم يكن موجوداً هناك، لعله كان المصور، في جميع الصور تبتسم امرأة شابة.

حاولت على مدى سنوات طويلة التخلص من تلك الغرفة، وتحرير علاقتي ببيروت من سطوتها ونفوذها الغريب على صورة المدينة.

سأتجول فيما بعد في لبنان من أقصى الشمال إلى تخوم فلسطين في الجنوب، وستواصل الغرفة في شارع الحمراء مرافقتي بصمتها وغبارها وتكتمها.

عندما وقف عباس في ممر القبو في دمشق وليس في بيروت، عندما سأل عني، لم يكن يعرف أنه يخرجني من تلك الغرفة وأنه يحررها من أبديتها الصغيرة في مخيلتي، وأن بابها بخشبه البني الغامق يتفكك مثل انفجار باهت.