نجيب محفوظ (أرشيف)
نجيب محفوظ (أرشيف)
السبت 17 أغسطس 2019 / 21:41

حضرة الموظف نجيب محفوظ

محفوظ اختلف عن غيره في أنه لم يدع الوظيفة بمتطلباتها الذهنية والنفسية والجسدية تعيقه عن الكتابة طويلا، بل إنه نقل الشكل الوظيفي في الكتابة الأدبية، فتصرف مع الأدب وكأنه وظيفة ثانية

كيف يبدع الموظف؟ .. هذا واحد من الأسئلة المهمة في حياتنا الأدبية، لأن كثيراً من الأدباء لا يمكنهم الاستمرار على قيد الحياة والكتابة سوى بوظيفة يتقوتون منها، في بلاد لم تجد للروائيين والشعراء وكتاب القصة والمسرح خانة في سجل الوظائف المعتمدة يتم تسكينهم فيها، فكُتبت في هوياتهم أمام الوظيفة: مهن وحرف شتى، بعضها له علاقة بالكتابة عموماً، مثل الصحافة، وبعضه لا علاقة له البتة بالإبداع الأدبي.

الوظيفة قيد، والأدب في حاجة إلى حرية. الوظيفة التزام، والكتابة الحقيقية بنت التمرد. الوظيفة طاعة، والكتابة مساءلة ومشاكسة ومعاندة. ربما لا شيء يجمع الاثنين سوى المكتب الذي يمكن أن يكون المكان الذي يجلس خلفه الموظف، وكذلك الكاتب، لكن بين المهمتين بوناً شاسعاً، فالأول تكون جلسته كي يدون في دفاتره وسجلاته بطريقة رتيبة مجترة اعتيادية يتحول فيها أحياناً إلى أشبه بآلة، أما الثاني فيجلس ليخط على الورق ما تنفعل به نفسه، ويجود به ذهنه، وتهديه له قريحته المتوقدة، غير خاضع لتكرار نمطي أو رتابة تبعث على الملل، نظراً لتوالي الشخصيات والصور والمواقف وتعدد مستويات لغة الكتابة، وشكل المنتج الأدبي الذي ينجزه.

ويكون على الأدباء أن ينفصلوا عن وظائفهم، بلوائحها والتزاماتها وطرائق عيشها، حين يشرعون في كتابة الأدب، ليتحرك الواحد منهم بين عالمين متناقضين، ويكون عليه، بمرور الوقت، أن يتدرب على هذا، ويمتلك مهارة عالية، طالما أن الكتابة لا تدر عليه دخلا يكفيه، ومن يعولهم، وبذا لا يستطيع فكاكا منها، وفي الوقت نفسه فإن الطاقة الأدبية المخزونة والمركوزة في نفسه، تلح عليه بلا توقف، باحثة عن سبيل للوجود والتحقق.

وكان نجيب محفوظ واحداً من هؤلاء، أو على رأسهم، لاسيما أنه كان موظفا صارم الانضباط، لكنه اختلف عن غيره في أمرين: الأول أنه لم يدع الوظيفة بمتطلباتها الذهنية والنفسية والجسدية تعيقه عن الكتابة طويلا، بل إنه نقل الشكل الوظيفي في الكتابة الأدبية، فتصرف مع الأدب وكأنه وظيفة ثانية، يجب أن يكون منضبطا فيها، ومخلصا لها، ومطيعا لمقتضياتها، ولذا كان يكتب يوميا خلال كل الشهور التي لا يضطر للتوقف فيها إثر إصابته برمد ربيعي ومرض السكري. والثاني أنه حوَّل مشاهداته ومكابداته وانفعالاته وخبراته وعلاقاته في عالم الوظيفة إلى مادة طيعة لأدبه، شخصيات وسياقات وأحوال وتأملات ومواقف وأحداث.

واستمر محفوظ في الوظيفة، على مضض، لأنه لم يملك ترف الابتعاد عنها، والتفرغ للأدب، نظرا لأنها توفر له الجزء الأكبر من احتياجاته المادية. ففي حوار أجراه معه فؤاد دوارة عام 1962 ونشره في كتابه "عشرة أدباء يتحدثون" يقول له محفوظ: "أصارحك أنني أعاني دائما قلقا من ناحيتين: المال والصحة"، وفي المال يقول: "لم أصل حتى الآن إلى مرتب يكفل لي ضروريات الحياة، وكل شهر أسدد بقية التزاماتي من الخارج. من أجر نشر الكتب والقصص ومكافآت الإذاعة ونحوها، والحالة مستورة والحمد لله، ولكني لا أستطيع أن أتخلص من ذلك الإحساس بالقلق، إذ ماذا يحدث لو لم تأت هذه التكميلات غير المنظورة، غير المضمونة".

ولا تخطئ عين وعقل من قرأ أعمال نجيب محفوظ جميعا أو بعضها، وكذلك من تابع الكتابات النقدية عن أدبه، أن عالم الموظفين، بلوائحه وترتيباته وتراتبيته وعلاقاته واحتكاكاته ومماحكاته اليومية وما يضفيه على الموظفين من سمات، يشكل الضلع الثالث في مضمون سرد أديبنا الكبير إلى جانب مجتمع الحارة، وعوالم التصوف وتجلياته، ولعل رواية "حضرة المحترم" تقدم كنموذج كامل لحياة الوظيفة في أدب محفوظ.

وكنا نعرف بعض ما يقال ويكتب عن محفوظ الموظف في التزامه وانضباطه واعتماده على راتبه من وزارة الأوقاف كمصدر أساسي لدخله، حتى لو أتاحت له الظروف أن ينتقل إلى العمل منتدبا في أماكن أخرى أو يبيع بعض قصصه ورواياته للسينما، لكن أحدا لم يفكر في البحث عن الملف الوظيفي لمحفوظ، لنعرف حقيقة هذا، وبعضه كان قد ورد على لسان أديبنا العربي الكبير في حواراته وكتاباته وبوحه وشكواه.

وجاء الكاتب الصحفي الأستاذ طارق الطاهر، رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب، ليمضي على هذا الدرب، حتى وصل إلى الملف المقصود، وقلَّب في تؤدة وتمهل أوراقه التي تربو على ثلاثمائة، وخرج لنا بكتاب كامل عنوانه "نجيب محفوظ بختم النسر"، لتصبح أول سيرة وظيفية كاملة له، يكشف فيها عن جوانب أخرى ظلت مخفية من حياة محفوظ بين المكاتب في ثلاثة أماكن، جامعة القاهرة، ووزارة الأوقاف، ووزارة الإرشاد القومي، التي تنقل فيها ما بين مصلحة الفنون ومؤسسة السينما، حيث شغل فيها مدير الرقابة، ومدير مؤسسة دعم السينما، ورئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما، وهي رحلة استمرت سبعة وثلاثين عاما، تحديداً ما بين 1934 و 1971.

وإذا كان الحديث عن انضباط محفوظ الصارم قد قُتل بحثاً، فإن تفاصيل هذا الانضباط لم تشرح على النحو السليم، فالرجل كان مطيعا في واجباته، لكنه لم يكن خانعا حيال نيل حقوقه، فعندما تخطته ترقية في وزارة الأوقاف هب مدافعا عما له، وكتب إلى رؤسائه شاكيا. كما أن حياته الوظيفة لم تمض دون أزمات، بل عصفت بها مشكلات بين حين وآخر.

وأفرد الكاتب فصلا لهذا، أبان لنا فيه أن أولى هذه الأزمات حين تم استدعاؤه لمقابلة وكيل وزارة الأوقاف أحمد حسين شقيق الدكتور طه حسين، بعد نشر رواية "فضيحة في القاهرة" مسلسلة بمجلة آخر ساعة، وهي التي نُشرت فيما بعد تحت عنوان "القاهرة الجديدة" و"القاهرة 30"، وحين علم أنه تلميذ عميد الأدب العربي، وأن ما كتبه رواية خيالية، حفظ التحقيق ونصحه قائلا: "لماذا تكتب عن فضائح الباشوات وتعرض نفسك للمشاكل .. اكتب عن الحب أفضل وأكثر أمنا". وعندما نشر "أولاد حارتنا" تم استبعاده من منصبه كمدير للرقابة بالسينما، وتوالت أزماته الوظيفية بسبب كتاباته الأدبية تارة، وقراراته التي رفضها بعض المخرجين تارة أخرى، بل وجد نفسه أحيانا في مواجهة كبار المسئولين السياسيين حين أصدروا قرارات مست السينما، فاستخدم قدرته الهائلة على التحايل والإقناع في حل المشكلات، وجعل العواصف تمر بسلام.
وبدا محفوظ في أول طريقه ساعيا إلى الوظيفة سعيا حثيثا عقب تخرجه في كلية الآداب جامعة القاهرة، لأنها كانت بالنسبة لأبناء جيله تمثل أمانا، ولم يكن أمامه من سبيل لتحقيق ذلك سوى عبر واسطة مكنته من العمل في البداية موظفا بجامعة القاهرة، قبل أن ينتقل إلى الأوقاف. ولعل هذا الاحتياج، ساعده كثيرا في رسم الحالات النفسية وتصرفات أبطال روايته "القاهرة الجديدة"، الذين كان شغلهم الشاغل وهم طلبة في كلية الحقوق هو الحصول على وظيفة بعد التخرج.

وإذا كانت كتابات محفوظ عن عالم الموظفين أو "طبقة الأفنديات"، لاسيما ما جاء في رواية "المرايا"، قد وصفت ملامح جانب مهم مما يصيب سلطة المكاتب من فساد وتحجر وتراتيبة صارمة ونفاق ومداهنة، فإن الكتاب يبين كيف حافظ محفوظ، حتى وهو مخلص لوظيفته، على نفسه من أن يسقط في فخ أي من هذه الخصال السيئة. وأعتقد أن الأمر لا يعود فقط إلى تربيته الخلقية، وسماته النفسية، وخلفيته الثقافية، إنما أيضا إلى أن الرجل كان ينظر إلى الوظيفة، في الغالب الأعم، على أنها مجرد باب رزق ليس أمامه خيار لغلقه، لأن غيره ليس مأمونا ولا مضمونا. فمحفوظ عاش طيلة حياته يتمنى أن يجد سعة من المال، تمكنه من الاستقالة والتفرغ لكتابة الأدب، لكن هذا لم يتيسر له حتى أحيل إلى التقاعد وهو في سن الستين، شأنه شأن بقية الموظفين الأٌقحاح.

إن كتاب طارق الطاهر، يغلق جزءا من الدائرة التي تريد أن تحيط بمحفوظ، أدبه وحياته بما انطوت عليه من أسرار وأحوال. ويسد الكتاب في موضوعه، جانبا لا يستهان به من هذه الدائرة، لاسيما أننا أمام كاتب، وإن بلغت شهرته الآفاق، فإن كتمانه الشديد ومداراته ومواراته وتحايله وحرصه على فصل حياته الخاصة عن صيته الأدبي، تجعل دوما هناك إمكانية لاكتشاف زوايا جديدة في حياته وأدبه.