مفاعل الكبر الذي قصفته إسرائيل في دير الزور (أرشيف)
مفاعل الكبر الذي قصفته إسرائيل في دير الزور (أرشيف)
الأحد 18 أغسطس 2019 / 21:21

ضربة الشبح في سوريا..!

وجه الإسرائيليون للأسد رسالة شفوية لا لبس فيها: إذا تجاوزت الخطوط الحمراء سيكون الدمار من نصيب القصر الجمهوري في دمشق

في مثل هذه الأيام، قبل 12 عاماً، كان الإسرائيليون قد وضعوا اللمسات الأخيرة على خطة تدمير موقع عسكري في سورية، يُسمى الكُبر، في محافظة دير الزور. كان الموقع سرياً، وما توفر لديهم، في حينها، يؤكد وجود مشروع مفاعل نووي أوشك على الاكتمال. لذا، شهدت تلك الأيام ما يشبه سباقاً مع الزمن.

ولتشخيص هذا السباق، بالذات، وما سبقه، وتلاه من تداعيات، يُكرّس يعقوب كاتس كتاباً نشره بالإنكليزية في أيار الماضي بعنوان "ضربة الشبح: من داخل مهمة إسرائيل السرية للقضاء على قوة سورية النووية".

لم يعد الكلام عن المهمة المعنية سريّاً في السنوات الأخيرة. ففي العام الماضي 2018، اعترف أفيغدور ليبرمان، بصفته وزيراً للدفاع، بمسؤولية إسرائيل عن تدمير موقع الكُبر في السابع من سبتمبر (أيلول) 2007. وكانت إسرائيل حتى ذلك الوقت قد تمسكّت بمبدأ الإنكار. وسورية، من جانبها أنكرت أن يكون الموقع المذكور عسكرياً، وأن تكون له أدنى صلة بمشروع لمفاعل نووي. وما بين العام 2007 ـ 2018 تسرّبت معلومات متناثرة، ونُشرت تحقيقات صحافية حول الموضوع، ودارت تكهّنات اختلط فيه الواقع بالخيال، ولكن القصة الكاملة ظلت طي الكتمان.

وفي هذا السياق، يزعم كاتس أنه يروي في "ضربة الشبح" القصة الحقيقية، وما دار في الكواليس، في أوساط المؤسستين العسكرية والسياسية في إسرائيل، وفي المشاورات الثنائية بين الإسرائيليين والأمريكيين. عمل كاتس رئيساً لتحرير جريدة جيروزاليم بوست، وشغل مناصب استشارية في الحكومة الإسرائيلية، وسبق له أن نشر كتاباً عن الصناعة العسكرية الإسرائيلية، ومن الواضح أنه استفاد من علاقاته المتشعبة في معرض رواية "القصة الحقيقية".
وربما يكون ما ورد في هذا الكتاب هو القصة الحقيقية، فعلاً، ومع ذلك ينبغي التحفّظ، دائماً، على قصص تستمد عناصرها الرئيسة من عالم الكواليس والظلال. ففي عالم كهذا قد يكون تسريب معلومات معيّنة بوصفها ما جرى في الواقع نوعاً من التضليل للتغطية على تفاصيل يُراد لها أن تبقى طي الكتمان.

ومع ذلك، ودون الغرق في تفاصيل كثيرة وردت في الكتاب، ثمة ما يستقيم مع المنطق من نوع أن إسرائيل لا تستطيع الإقدام على عمل من هذا النوع دون التنسيق والتشاور مع الأمريكيين. وفي هذه الحالة، بالذات، رفض الأمريكيون المشاركة، في تدمير موقع الكُبر، بطريقة عملية، ولكن إدارة الرئيس بوش الابن لم تضن عليهم بالضوء الأخضر، ولا بالمعلومات الاستخبارية الكفيلة بنجاح العملية.

وفي السياق نفسه، ثمة ما يستقيم مع المنطق من حيث تعدد الآراء في أوساط المسؤولين الأمنيين والسياسيين في إسرائيل بشأن أفضل الطرق لتدمير موقع الكُبر: عملية برية للقوات الخاصة، أو غارة جوية، أو اللجوء إلى الخيار الدبلوماسي، وفضح حقيقة المشروع النووي السوري، وممارسة الضغط على السوريين، بالتنسيق مع الأمريكيين، لإرغامهم على وقف المشروع، وإن لم يرضخوا يمكن اللجوء إلى الخيار العسكري.

اختار الإسرائيليون الغارة الجوية كبند أوّل على جدول الأعمال، لأن العملية البرية محفوفة بالمخاطر، ولأن لخيار الدبلوماسي قد يُشجّع السوريين على الإسراع بتشغيل المفاعل وفي هذه الحالة يصعب قصفه نتيجة ما قد ينجم عن القصف من إشعاعات نووية، ناهيك عن حقيقة أن تشغيل المفاعل يمنح السوريين ورقة للضغط في موضوع التفاوض حول استعادة هضبة الجولان، ويمنح النظام السوري مكانة وهيبة في المنطقة.

والمهم، في موضوع الغارة الجوية، أن تقديرات الإسرائيليين اعتمدت على احتمال أن يمتص النظام السوري الضربة، وأن يتظاهر وكأن شيئاً لم يكن، كما فعل في مرّات سابقة. وبها المعنى تحافظ إسرائيل، بعدما حققت الهدف، على مبدأ الإنكار، ويحفظ النظام ماء الوجه. ومع ذلك، لم يُسقط الإسرائيليون احتمال اندلاع الحرب نتيجة تدمير المفاعل السوري، لذا استعدوا للحرب التي لم تقع.

وعلى الرغم من حقيقة أن الإسرائيليين أنكروا، وأن النظام تظاهر وكأن شيئاً لم يكن، إلا أنهم أرسلوا للأسد رسالة شفوية لا لبس فيها: إذا تجاوزت الخطوط الحمراء سيكون الدمار من نصيب القصر الجمهوري في دمشق. والمفارقة، في هذا الشأن، أن رئيس الوزراء التركي، في حينها، رجب طيّب أردوغان، هو الذي نقل الرسالة. وهو نفسه الذي كان وسيطاً في مفاوضات سورية ـ إسرائيلية غير مباشرة، جرت في تركيا، في ذلك الحين.

وتبقى، في هذا الشأن، إشارة ضرورية وردت في الكتاب عن كوريا الشمالية، التي بنت المفاعل السوري، وزودت السوريين بالتكنولوجيا والمهندسين والخبراء. لم يفعل الكوريون هذا كله نتيجة قناعات سياسية وأيديولوجية بل لأنهم يحتاجون العملة الصعبة، ويقومون بأعمال كهذه لممارسة الابتزاز، وتحسين موقفهم التفاوضي مع الأميركيين. وقد حاول مسؤولون إسرائيليون إقناع الكوريين بالحد من علاقتهم الخاصة بالسوريين، وكانت المفاجأة أنهم أبدوا الاستعداد ولكن مقابل أن تضمن لهم إسرائيل الحصول على نفط مجاني لمدة عشر سنوات.

هذا غيض من فيض "القصة الحقيقية". ولعل أهم ما ينطوي عليه الكتاب من دلالات ليس ما فضح من أسرار، بل ما تجلى فيه من تفاصيل عن طريقة اتخاذ القرارات في المؤسسات العسكرية والأمنية والسياسية في إسرائيل.

ومن الواضح أن عواطف كاتس تميل إلى إيهود أولمرت، الذي كان رئيساً لوزراء إسرائيل في حينها، وأودت به تهم بالفساد أوصلته إلى استقالة والسجن. بمعنى آخر، ثمة ما يشبه محاولة لإعادة الاعتبار لأولمرت، وهذا يعني في التحليل الأخير النيل من بنيامين نتانياهو، الذي ينتظر بدوره تهماً بالفساد قد تُخرجه من رئاسة الوزراء، وتقوده إلى السجن.