الروائي الألماني توماس مان (أرشيف)
الروائي الألماني توماس مان (أرشيف)
الأربعاء 21 أغسطس 2019 / 20:32

الفنان والمجتمع

لقاء إذاعي في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، مع الروائي الألماني الكبير توماس مان، وقبل موته بثلاث سنوات (1875- 1955). الحديث تحت عنوان يبدو بسيطاً، أو معقداً، تبعاً لإجابة ضيف اللقاء. العنوان هو "الفنان والمجتمع".

دُفع توماس مان دفعاً نحو فلسفة اليسار الاجتماعية، ولفترة من الزمن كان داعية متجولاً للديمقراطية، وهو دور لم يكن يحبه، ووصفه بالدور الهزلي

يبدأ توماس مان حديثه بنفي البساطة عن عنوان "الفنان والمجتمع"، النفي أولاً مُجَامَلة لمعدي اللقاء، وكأنَّ المحطة الإذاعية تُدرك تعقيداً كبيراً وراء عنوان "الفنان والمجتمع"، أكثر مما تُدرك أن توماس مان، بمعرفته البانورامية الملحمية، يستطيع الحديث تحت أي عنوان.

ثانياً نفي توماس مان، لبساطة عنوان "الفنان والمجتمع"، يُبرر لنفسه ابتعاده واقترابه من العنوان، بحسب عمق نظرته، وتشاؤمه الشوبنهوري، ورحابة معرفته.

لماذا لا نقول مباشرةً: "الفنان والسياسة"، فالسياسة تتخفى دائماً وراء كلمة "المجتمع"، وإذا كان الفنان ناقداً للمجتمع، أصبح بدوره ناقداً للسياسة، أي أصبح فناناً سياسياً، أو بعبارة أشمل، أصبح فناناً أخلاقياً.

إن العنوان الأكثر صدقاً ليس "الفنان والمجتمع"، بل "الفنان والأخلاق"، لكن العنوان الأكثر صدقاً، قد يثير حرجاً، فالفنان ليس في الأساس كائناً أخلاقياً، إنما هو كائن جمالي في المقام الأول، وحافزه الرئيسي هو اللعب، لا الفضيلة.

في السياسة أيضاً لا يتورع السياسيون عن اللعب بالقيم الأخلاقية، أثناء انخراطهم في العملية السياسية، رغم أنهم لا يذكرون كلمة "الأخلاق"، ويعتبرون ضمناً أنهم أخلاقيون بالمعنى الإيجابي، وليس بالمعنى السلبي، ولهذا يجمعون على إدانة الأخلاق المكيافيلية، وهي الأخلاق العملية الوحيدة، الممكنة في عالَم السياسة، والتي تُمارس ليل نهار، دون الاعتراف بها، ومكيافيللي نفسه في كتاب "الأمير"، لا ينصح السياسيين بهذا الاعتراف.

ينتقص توماس مان بشكل واضح من أخلاقيات الفنان، ويبدو هذا النقص واضحاً في زمن الحرب، وكأن الفنان ليس مؤهلاً بفطرته لاتخاذ مواقف أخلاقية في أوقات الاضطرابات الكبرى، والحل يأتي إليه من النزعة الجمالية الغامضة التي تساعده على الهروب من الوقوف ضد، أو مع العدو، وكلما كان الجدار الجمالي عالياً تعذَّر على كل من الطرفين المتصارعين، جذب عمل الفنان ناحيته.

القادرون على المعادلة الجمالية قليلون. كافكا على سبيل المثال، تناهبه نقد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، من أيديولوجيات مُتنافرة، ماركسية، وعدمية، ودينية، إلا أن أعمال كافكا صمدت أمام التأويلات المختلفة. بهذا المعنى إذا كانت النزعة الجمالية لدى الفنان متينة، معقدة، كما هي عند توماس مان، وشارلي شابلن، ونجيب محفوظ، فهي تستطيع، رغم جمالها اللعبي، احتواء السياسة والأخلاق.

أمّا إذا تطرفت السياسة إلى الفاشية، فلا تجدي معها جدران توماس مان، وشارلي شابلن، ونجيب محفوظ، الجمالية.

والإدانة تكون في الغالب تحت بند، على الفنان المساهمة في إصلاح العالَم أخلاقياً. يستشهد توماس مان بكلمات غوته: "قد يكون للعمل الفني آثاره الأخلاقية، لكن مُطالبة الفنان بوضع هدفٍ أخلاقي، نصب عينيه، قبل البداية، قد يُنتج عملاً مُباشراً يُمثِّل فضيحة للجهة التي يقف معها.

كل فنان يُحذِّر فناناً آخر من السياسة، لكن السقوط يحدث دائماً، فالرابطة بين السياسة والفن، أو بين العقل والسياسة، لا تنقطع، لا فكاك منها، أو على الأقل هذا هو العزاء الذي يستسلم له الفنانون بعد السقوط، بكلمات مثل: إننا بإزاء الإنسان في مجموعه، لحمة واحدة، السياسة، والأخلاق، والجمال.

ثم يأتي الاستثنائيون الأخلاقيون أيضاً، بطريقتهم الخاصة، الذين يدافعون بمسؤولية، عن أشياء لا يُمكن البرهنة على وجودها، ولا يُمكن حتى احتمال وجودها، لكنها أشياء تقترب خطوة من الوجود، خطوة من إمكانية التولد، لأن فنانين ذوي ضمائر وأخلاق، عاملوا تلك الأشياء على أنها كائنة نوعاً ما.

كان نجاح هتلر في انتخابات 1930، ووصول الحزب النازي إلى الحُكم في 1933، ضربة يأس في قلب توماس مان، فهان عليه وعي الشعوب.

كان يشعر بتناقض وعبث من مطالبته بتشكيل جبهة من الديمقراطيين لمواجهة النازيين، وكان يسأل نفسه كيف جاءتْ الديمقراطية نفسها بهتلر. سُحبتْ الجنسية الألمانية من توماس مان في 1936، وعاش متنقلاً بين فرنسا، وسويسرا، وأمريكا.

دُفع توماس مان دفعاً نحو فلسفة اليسار الاجتماعية، ولفترة من الزمن كان داعية متجولاً للديمقراطية، وهو دور لم يكن يحبه، ووصفه بالدور الهزلي. كانت رغبته الشديدة في سقوط هتلر، هي التي جعلته داعية للمثل الإنسانية.

يسأل توماس مان نفسه السؤال المؤرق، ما إذا كان المهم في الشؤون السياسية، وفيما يتعلق بالاحتياجات والمطالب الإنسانية، أن يكون الكاتب ممتعاً أم يكون مفيداً؟