الشرطي التركي حاملا الطفلة الفلسطينية ملاك في بودروم (أرشيف)
الشرطي التركي حاملا الطفلة الفلسطينية ملاك في بودروم (أرشيف)
الخميس 22 أغسطس 2019 / 19:47

كثير من الغرقى في رواية واحدة

ما يقارب 40 ألفاً قد هاجروا من قطاع غزة منذ انقلاب "حماس" 2007 وأن الظاهرة في تصاعد غير مسبوق، هذا رقم مخيف فعلاً

في أكتوبر(تشرين الأول) من العام الماضي، غرقت طفلة مهاجرة مقابل شاطئ مدينة بودروم التركية، ارتبط غرق الطفلة بمحاولة شرطي المرور التركي هارون أوغلو، الذي وجد هناك بالصدفة، إنقاذها، هناك صورة لهارون وهو يحمل الطفلة التي بدت نحيلة وسمراء ترتدي معطفاً أحمراً، وحذاءً رياضياً ويركض بأقصى سرعته ويصرخ طالباً الإسعاف، الطفلة كما تبين فيما بعد هي "ملاك رباح أبو جزر" من غزة، هناك صورة أخرى لرجل مدني يركض وهو يحمل الطفلة بحذائها الرياضي ومعطفها الأحمر، لا يبدو واضحاً إذا كان الرجل المدني والد الطفلة أو أحد الناجين وما إذا كان قد تسلم الجسد الهش من هارون. هارون بالتأكيد لم يكن يعرف من أين أتت هذه المهاجرة الصغيرة، كانت بالنسبة له طفلة غريقة ألقاها البحر على شاطئ مدينته.

في يناير(كانون الثاني) هذا العام، وصلت الى عائلة أبو سيدو، في غزة أخبار غرق ابنهم الشاب حسام أمام السواحل اليونانية، حسام كان في طريقه إلى بلجيكا حيث سبقه شقيقه هناك.

قبل أيام توفي تامر السلطان من غزة في البوسنة، تامر الصيدلي الشاب الحيوي والناشط الشجاع، وصل البلقان في رحلة خلاص تراجيدية بعد أن أغلقت كل الأبواب في وجهه، وبعد سيرة طويلة من الاعتقال، والتعذيب، والمهانة في أقبية حماس، بسبب مطالباته التي لم تتوقف بالعمل والعدالة.

هناك الكثير من الغرقى في هذه الرواية، غرقى يشيرون نحو آلاف الأشباح الذين يقطعون المتوسط في رهان بين الموت والحياة.

تشير المصادر، بعضها إسرائيلية، الى أن ما يقارب 40 ألفاً قد هاجروا من قطاع غزة منذ انقلاب حماس في 2007، وأن الظاهرة في تصاعد غير مسبوق، هذا رقم مخيف فعلاً، ويفضح حجم المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في ذلك الجيب على المتوسط، بين الحصار الإسرائيلي وحكم الإخوان المسلمين والتجاهل الدولي، حيث يتكامل الحصار والقمع والتجاهل في تحطيم حياة الناس، وأحلامهم، وكرامتهم.

في إسرائيل يتلقف اليمين الفاشي الحاكم هذه الظاهرة، ويعمل على تطويرها عبر تسهيل هجرة الشباب في غزة من خلال عروض السفر عبر المطارات الإسرائيلية مجاناً، والمساعدة في إيجاد حلول فردية لتوفير اللجوء خارج فلسطين، حملة يقودها نتانياهو نفسه، وتقف خلفها الأحزاب الرئيسية في اليمين الحاكم، ويبدو أنها وجدت واقعاً ملائماً لتنتعش، على أمل تطبيقها لاحقاً في الضفة الغربية، والقدس، ومناطق الـ 48.

في لبنان تولى القانون الذي أطلقه وزير العمل اللبناني مهمة دفع اللاجئين الفلسطينيين، الشباب على وجه الخصوص للهجرة، بينما أنجزت أو تكاد عملية تهجير اللاجئين الفلسطينيين في سوريا سواءً على يد الظلاميين أوالنظام.

للوهلة الأولى تبدو فكرة تهجير الفلسطينيين، وكأنها خارجة للتو من منظومة أفكار الرئيس الأمريكي ترامب وطاقمه، فهي تشبه إلى حد كبير اقتراحه في بداية حملته الانتخابية ترحيل سكان الضفة وغزة، 4 ملايين، إلى جزيرة بورتوريكو، حيث ستجري هناك عملية تأهيلهم، وتشغيلهم، ومنحهم فرصة للعيش غير بعيد عن الساحل الأمريكي بشرط تعهدهم عدم المطالبة بالعودة، الاقتراح حمل اسم "حل ترامب" وأعلنه في مؤتمر صحافي في ميريلاند في صيف 2015.

ولكن مع تتبع المشروع وبقليل من الحفر سيتضح أن دور ترامب لا يتعدى الإيمان بالفكرة كأحد الحلول "الإبداعية" لقضية اللاجئين الفلسطينيين التي يواصل مبعوثه وصهره كوشنر الحديث عنها، وهو أيضاً ما يردده مبعوث كوشنر، غرينبلات وما يؤمن به سفير الولايات المتحدة في تل أبيب، فريدمان.

عملية إغلاق ملف اللاجئين الفلسطينيين وتفكيك مكوناته، حل الوكالة الأممية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، تضييق سبل الحياة في فلسطين عبر الحصار والاستيطان، تسهيل الهجرة ضمن شروط عدم العودة، وتجفيف الملف الشائك والأكثر تعقيداً من ملفات الصراع الفلسطيني الصهيوني.

كانت هناك خطط كثيرة لدى ديفيد بن غوريون حول فكرة تهجير الفلسطينيين سابقة على تأسيس "الدولة" تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما أشار إليه المؤرخ الإسرائيلي ايلان بابيه في كتابه المهم الذي تُرجم للعربية "التطهير العرقي في فلسطين"، وهي خطط تداولها اليسار الصهيوني الذي تمتع بنفوذ حاسم في توجهات "الدولة" في مرحلة ما بعد التأسيس وحتى فوز الليكود في 1977، إثر حرب تشرين وتسلم مناحيم بيغن منصبه سادس رئيس وزراء في اسرائيل.

الفكرة قادمة من اليسار الصهيوني إذاً، نشأت وجرى تداولها خلال العصر الذهبي لهذا اليسار الغريب الذي استطاع الجمع بين "الغيبيات التوراتية"، والليبرالية الأوروبية، واشتراكية المزارع التعاونية السوفياتية.

الذي يحدث الآن هو تسليم هذا الإرث العنصري لليمين الفاشي الذي ورث "الدولة" أيضاً إثر توفر البيئة الاقليمية والدولية لتنفيذه.