الشاب الإماراتي تركة خليفة بن دعفوس.(أرشيف)
الشاب الإماراتي تركة خليفة بن دعفوس.(أرشيف)
الجمعة 23 أغسطس 2019 / 18:08

تركة خليفة بن دعفوس

"محارب السرطان" –ومجرد خوضه للحرب أمام أعين المجتمع مثّل عملاً بطولياً في حد ذاته-، كان أول من يخرج من قوقعة الصمت المرتبطة بالخبيث

في آخر سنوات دراستي الثانوية، رأيت مدرسة اللغة العربية المُفضّلة لدي تُحال إلى ما يشبه التقاعد، فتجلس أمينة لمكتبة المدرسة منعدمة الروّاد أصلاً، وتعمل أياماً أقل وأقل من الأسبوع.

لاحظنا جميعاً تلك الاختلافات التي باتت تعتري مظهرها وسلوكها، ولكن لم يجرؤ أحد منا على السؤال: ما هذا العكاز في يمينها؟ كيف انتفخ جسدها ووجهها كالبالون؟ لماذا لم تعد تستقل سيارتها الخاصة؟

وكان لزاماً على المرض أن يصل بها إلى نقطة اللاعودة، لتخبرنا إدارة المدرسة بأنها كانت –رحمها الله- تخوض حرباً شريفة ضد السرطان. وبأنها لن تعود لتختلي بكتابها خلف طاولة أمينة المكتبة.

وخرجت من الأسوار الضيقة للمدرسة الثانوية إلى العالم الفسيح، لأتيقن بأن التكتّم حول طبيعة مرض أستاذتي لم يتعلق كثيراً بكوننا "مراهقين" و "قصّراً" آنذاك، بل لأن السرطان نفسه لا يزال مرتبطاً في عقلنا الجمعي بثنائية التستر والانزواء.

كبرت أصلاً على ألا أنطق هذه الأحرف الخمسة: سرطان، وألا أرتكب هذه الجنحة دون التعوّذ بالله منه. إنه "هذاك المرض"، "الخبيث"، "اللي ما ينطرى".

السرطان "مرض صامت" في مجتمعي الإماراتي، ومرضاه هم أولئك الذين "يختفون" دون تبرير واضح في رحلات علاجية مطوّلة جداً إلى مشارق الأرض ومغاربها. إنهم أولئك الذين يتم اختطافهم من وظائفهم واهتماماتهم وروتينهم المعتاد، فيُترك أغلبية المحيطين بهم من المعارف والزملاء مُحمّلين بالتساؤلات عما حدث لهم، وأين أصبحوا، ومتى يعودون.

وحينما يرجعون إلينا برؤوس حليقة، وكمامة تحمي مناعاتهم الهشة، نكتفي بعبارة "الحمد لله على السلامة"، وكأنما هذا الديكتاتور لا يسمح لهم بأن يكشفوا عما رأوا.

بالطبع، إصابة أحد بالسرطان لا يجعله "حالة دراسية" للمجتمع، أو قصة مجانية وُجدت لإثارة فضولهم، أو بث العزيمة والإصرار فيهم. مريض السرطان لديه مطلق الحق في الحفاظ على خصوصيته.

ولكن خلال السنوات الخمس الأخيرة، لم يتشجع إماراتي –على حد علمي- بقدر المحارب خليفة بن دعفوس –رحمه الله- في كسر هذا السقف الزجاجي الذي كان يُفرض مجتمعياً فوق رؤوس المرضى.

"محارب السرطان" –ومجرد خوضه للحرب أمام أعين المجتمع مثّل عملاً بطولياً في حد ذاته-، كان أول من يخرج من قوقعة الصمت المرتبطة بالخبيث، فيتحدث بشفافية وقوة عن خسائره وكوابته وأحزانه.
  
كان باستطاعته أن يتمتع بكامل خصوصيته كمريض، وأن يتركنا وحدنا للتساؤلات المعتادة عما يفعله في غربته الإجبارية. ولكنه من اختار أن يكتب في نبذته التعريفية في تطبيق "تويتر" بأن له ساقاً مبتورة قد سبقته إلى الجنة، وهو من أطل أمام الكاميرا مبتسماً من غرف العلاج الكيماوي، وهو من حدّثنا بكثير من الإيمان عن فشل علاجه السابق، ومراهنته على علاج جديد رغم تضاؤل فرص نجاته.

لن يعود السرطان بعد خليفة بن دعفوس كما كان قبله في مجتمع اعتاد الصمت والتكتم، وتلك هي تركة المؤثرين الحقيقيين.