طلعت باشا أحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي التركية (أرشيف)
طلعت باشا أحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي التركية (أرشيف)
الأربعاء 11 سبتمبر 2019 / 20:37

الاتحاديون الأتراك

كانت الفكرة القومية التي مثلها الاتحاديون الأتراك، والأتاتوركيون، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، الوجه الأكثر قبحاً وتطرفاً، لمشروع بناء دولة قومية متجانسة إثنياً، مركزها آسيا الصغرى.

كان هدف طلعت باشا تحقيق التوزيع الإثني المتجانس، لتتحول آسيا الصغرى إلى قلعة حصينة يكون الأتراك حماة لها

الفكرة التركية العِرقية، مفادها طرد وتهجير وتصفية اليونانيين، والأرمن، والأكراد، من قبل جمعية الاتحاد والترقي، والأتاتوركيين الكماليين فيما بعد.

سُميت سياسة الأتراك، بسياسة "الهندسة الإثنية"، وسياسة "الهندسة الديموغرافية"، كما أطلق عليها الباحث ميشيل برونو في كتابه "من آسيا الصغرى إلى تركيا"، سياسة "الداروينية الاجتماعية"، وهي تقوم على أفكار اليمين الفرنسي في القرن التاسع عشر إرنست رينان، وهيبوليت، وغوستاف لوبون الذي وصلتْ أفكاره إلى الأتراك، عن طريق كتابات عبد الله جودت 1932- 1869، أحد المؤسسين الأربعة لجمعية الاتحاد والترقي.

ووفق المؤرخ والطبيب الفرنسي غوستاف لوبون، فإن العِرق يهيمن على الغوغاء. كانت الداروينية الاجتماعية تستوعب الأفكار القومية والإسلامية على حد سواء، ولهذا لا يختلف كثيراً مصطفى كمال أتاتورك القومي عن رجب طيب أردوغان الإسلامي.

أسس جمعية الاتحاد والترقي في 1889، مجموعة من طلبة مدرسة الطب، يتخذون من العلوم البيولوجية مرجعية لهم، خاصة علم التشريح والفزيولوجيا، إلى جانب علمي الإحصاء والخرائط.

عاش الاتحاديون على تقديس الانتماء التركي الذي تعود أصوله إلى آسيا الصغرى، وشهدت فكرة "الطورانية"، الجامعة للشعوب التركية، المستندة إلى مفهوم العِرق، ازدهارها. كانت البيئة المقدونية التي تشكلت فيها جمعية الاتحاد والترقي، مُناسبة للانتقال من التفكير العِرقي إلى العنف ضد اليونانيين، والبلغار في مقدونيا.

أُعجب الاتحاديون بالنموذج الألماني في المجالين العسكري والاقتصادي، فوضعوا هدفاً لهم، مُتمثلاً في بناء بورجوازية قومية قوية، قادرة على مواجهة التجار، وأصحاب الأعمال الأرمن، واليونانيين الذين أصبحوا كبش فداء عند الاتحاديين.

كما تبنى الاتحاديون الأتراك بهوس، الأفكار الوضعية، فاعتمدوا إحصائيات السكان، والخرائط، والأبحاث الإثنوغرافية، واعتبروا آسيا الصغرى صندوقاً أسود، وأرضاً مجهولة، يجب استكشافها بالوسائط التي يوفرها العلم الحديث.
  
أُنجزت إحصائيات للسكان في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، واعتمد عليها الاتحاديون الذين لم ينجزوا بعد إحصائيات خاصة بهم.

سخر الاتحاديون المعطيات الإحصائية الإثنية، لإضفاء شرعية على مشاريعهم من أجل التتريك، وقد أطلق وزير الداخلية طلعت باشا سياسة "الهندسة الإثنية"، وبموجب أمر مؤرخ في 20 تموز(يوليو) 1915، بدأ فعلياً مشروع التتريك، وانطلقت الحرب السرية الإثنية.

 ألزم الأمر السري الإثني، كل القرى، وأحياء المدن، بوضع جداول إحصائية، وخرائط جديدة مُعدلة، تبين تركيبة السكان، وتوزيعهم وفق هويتهم الإثنية.

جمع الاتحاديون هذه المعطيات الإثنية، لنقل السكان غير الأتراك من الجهات الساحلية إلى الداخل التركي، مع الحرص على ألا تزيد نسبتهم عن 10 في المائة من مجموع السكان المحليين الأتراك، من منطلق أن نسبة تقل عن 10 في المائة، تسمح باندماج الأقليات.
  
كان هدف طلعت باشا، تحقيق التوزيع الإثني المتجانس، لتتحول آسيا الصغرى إلى قلعة حصينة يكون الأتراك حماةً لها. كانت أوامره تنص على إفراغ القرى والمدن من اليونانيين، والأرمن بكل الوسائل الممكنة، الطرد، والاضطهاد، والتهجير، والتصفية الجسدية، حتى تصل تركيبة السكان إلى التركيبة المثلى.

أثناء الحرب العالمية الأولى، اتخذ الاتحاديون إجراءات اضطهاد، بضوء أخضر من ألمانيا، مهدت لتصفية اليونانيين في آسيا الصغرى، وكان أول هذه الإجراءات، سحب الامتيازات من السكان اليونانيين، إذ وضعتْ المدارس اليونانية تحت الإشراف المباشر لوزارة التعليم العام التركية، بدل البطريركية، وفي مجال القضاء، أُلغيت أيضاً امتيازات البطريركية، وصادرت الدولة العثمانية عدداً من أملاك الكنيسة.

كما ظهرتْ في 1913 و 1914، لأول مرة، عصابات المجرمين المسرحين من السجون، التي كان يشرف عليها الضباط الأتراك. كانت مهمة العصابات، إرهاب وقتل اليونانيين الذين لم يعد بإمكانهم الخروج من قراهم.

وكان هدف هذه السياسة، طرد التجار ورجال الأعمال اليونانيين المتحكمين في الاقتصاد، وتجريدهم من أملاكهم، لإنشاء اقتصاد يحتكره الأتراك.

بلغت حملة التطهير العرقي التي شنها الاتحاديون، ذروتها، في المجزرة التي تعرض لها يونانيو مدينة فوكيا التي كان يسكنها 10000يوناني، و400 تركي، على يد عصابة الباشي بوزوك في 12 حزيران (يونيو) 1914.

استعمل الاتحاديون أسلوباً مزدوجاً لطرد اليونانيين من سواحل بحر إيجه، وآسيا الصغرى، وتراقيا الشرقية، باللجوء إلى إجراءات سرية غير رسمية خاصة بالتصفيات الجسدية، وإجراءات أخرى للتهجير، وللتعديل الديموغرافي التي تُشرف عليها الدولة.

في السنوات العشرين الأخيرة، استغل مؤرخون يونانيون، وغربيون، وثائق القنصليات التي سمحت لهم باستعراض شهادات كثيرة لرحالة، وديبلوماسيين، كانوا مقيمين، أو عابرين، في المناطق التي أُرتكبتْ فيها المجازر، وشهدتْ عمليات التهجير من السواحل إلى داخل الأناضول.

وأشهر شهادة كانت للكاتب الأمريكي إرنست هيمنغواي الذي عمل مراسلاً حربياً متطوعاً في الحرب العالمية الأولى، وقادته الصدفة، لرؤية بشاعة التطهير العرقي.

سجّل هيمنغواي مشاهدات المجازر التي تعرّض لها اليونانيون والأرمن في قصتين، الأولى بعنوان "على رصيف الميناء في أزمير"، والثانية بعنوان "التعريشة الثانية".