رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في تكريم ديفيد بن غوريون (أرشيف)
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في تكريم ديفيد بن غوريون (أرشيف)
الأحد 15 سبتمبر 2019 / 19:05

ما لا يبدو على السطح يتحرك صاخباً في الأعماق

أقل من ثمان وأربعين ساعة تفصل الإسرائيليين عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع. وما تردد ذكره، منذ أبريل (نيسان) الماضي، من سيناريوهات، وتكهنات في هذا الشأن، لم يتغيّر بصورة حاسمة حتى الآن.

نتانياهو يريد تصفية المسألة الفلسطينية، وأبرز عناوينها قضية اللاجئين وحسم مستقبل الضفة الغربية، وتطبيع وجود إسرائيل بوصفها لاعباً إقليمياً في الشرق الأوسط

ولعل هذا ما يمكن اختزاله، أيضاً، في حقيقة أن عنوان الصراع في المشهد السياسي الإسرائيلي، على مدار دورتين انتخابيتين سابقتين، ودورة مُنتظرة يوم الثلاثاء القادم، هو مستقبل بنيامين نتانياهو السياسي والشخصي في آن.

المفارقة أن لا وجود، للوهلة الأولى، في البرامج السياسية لخلافات أيديولوجية عميقة بين كبار اللاعبين والمتصارعين. وبهذا المعنى لا مكان على رأس القائمة لموضوع "عملية السلام" مع الفلسطينيين، ولا الحرب الباردة، في المجتمع الإسرائيلي، بين العلمانيين والمتدينين، ولا حتى الموقف من المشروع النووي الإيراني، وقضايا الشرق الأوسط عموماً.

فالعنوان الوحيد الذي يحظى بالأولوية، وينقسم حوله جمهور الناخبين ما بين مؤيد ومعارض، هو نتانياهو نفسه، بينما يُؤجّل، أو يُرحّل، ما تقدّم من خلافات إلى مفاوضات إنشاء التحالفات، وتشكيل الحكومة.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بنتانياهو، فإن غياب الخيط الرفيع الفاصل بين المصلحتين الشخصية والعامة، في سيرته وسلوكه، خاصة في السنوات الأخيرة، يدفع الكثير من مراقبي المشهد السياسي في إسرائيل للقول إن بقاء المذكور في سدة الحكم، أو خروجه منها، ينطوي على تداعيات بعيدة المدى تمسّ مستقبل وهوية الدولة الإسرائيلية نفسها على مدار عقود كثيرة قادمة.

ولعل في هذه الحقيقة، وحدها، من خطوط التماس، وقضايا الخلاف والاختلاف، ما يكفي لإشعال أكثر من حرب أيديولوجية طاحنة، عشيّة الانتخابات، كما جرت العادة من قبل. وهذا لم يحدث، ويمكن تعليل غيابه، إلى حد كبير، بما طرأ على السياسة والمجتمع في إسرائيل من تغيّرات عميقة على مدار العقود القليلة الماضية.

وهذا يشمل أمركة العمليتين السياسية والانتخابية بما يعني الاعتماد على الملصقات، ووسائل التواصل الاجتماعي، ومهارات التمثيل من جانب المرشّحين، ناهيك عن الدسائس الحزبية، وتغيّر البنية الطبقية للكتل الوازنة في الانتخابات، وهذه الأشياء كلها لا تحتمل سجالات، ونقاشات، أيديولوجية وسياسية عميقة.

ومع ذلك، ينبغي التركيز بقدر أكبر من التفاصيل على معنى غياب الخط الفاصل بين الشخصي والعام في سيرة نتانياهو وسلوكه. فهو يريد ترك بصمة دائمة على بنية وهوية السياسة والمجتمع والدولة. وهذا لن يتأتى دون منافسة إجبارية مع بن غوريون، الشخصية التي تحتل مكانة مركزية في الذاكرة التاريخية والسياسية للإسرائيليين.

فبن غوريون هو مؤسس الدولة الإسرائيلية، الذي كان حتى وقت قريب صاحب أطول مدة في شغل منصب رئيس الوزراء، ولكن نتانياهو تجاوزه هذا العام ليصبح صاحب المدة الأطول. ولا ينبغي التقليل من شأن هذه المنافسة الرمزية، التي يصعب اكتشاف دلالتها الحقيقية بعيداً عن التاريخ العائلي والأيديولوجي لعائلة نتانياهو نفسه.

الجد والأب أسهما في تاريخ الجناح اليميني للحركة الصهيونية بقدر برر لهما ادعاء تمثيل الصهيونية الحقيقية، واتهام الجناح العمالي للحركة بالخيانة. وقد عارض الأب قرار التقسيم في 1947، كما عارض التقارب مع ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وعارض اتفاقية السلام مع مصر، رغم أنها وقعت في عهد حكومة بيغين اليمينية، والابن عارض اتفاقية أوسلو، واستمد كل زخمه الانتخابي، في لحظة اقتحام المشهد السياسي الإسرائيلي، من معارضة الاتفاقية، والتحريض ضد اسحق رابين، والعماليين.

لا يتسع المجال، هنا، لتفاصيل كثيرة، والمهم أن صعود اليمين القومي والديني، منذ 1977، واتساع قاعدته الاجتماعية والسياسية في الوقت الحاضر، أعاد إلى الواجهة طموحات طالما راودت أفراد النواة الصلبة لورثة جابوتنسكي الأيديولوجيين، وفي صلبها تدارك أخطاء وخطايا العماليين، وإنشاء الدولة الإسرائيلية الثانية.

وبهذا المعنى يمكن تفسير العام في سيرة نتانياهو وسلوكه، فهو يريد تصفية المسألة الفلسطينية، وأبرز عناوينها قضية اللاجئين وحسم مستقبل الضفة الغربية، وتطبيع وجود إسرائيل بوصفها لاعباً إقليمياً في الشرق الأوسط. وهذه، كلها، إذا تحققت، تمثل ولادة دولة إسرائيلية جديدة.

وبهذا المعنى، أيضاً، يمكن تفسير الإشارة قبل أيام قليلة، في سياق الحملة الانتخابية، إلى مسعى عقد اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، بما يضمن أمن إسرائيل "على مدار قرون قادمة" كما ذكر نتانياهو نفسه.

ويبقى، في هذا السياق، التذكير بحقيقة أن لا حسم مستقبل القضية الفلسطينية، على طريقة نتانياهو، ولا اتفاقية الدفاع المشترك مع الأميركيين، تحظى بموافقة نخب وازنة في المؤسسات الأمنية، والعسكرية، والسياسية، للدولة الإسرائيلية.

فالأولى، أي المسألة الفلسطينية تنطوي على احتمال تحويل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، وفقدان الطابع اليهودي و"الديمقراطي" للدولة. والثانية، أي اتفاقية الدفاع المشترك، تجعل الإسرائيليين رهينة في يد الأمريكيين، وتفقدهم عنصر المبادرة لأنهم لا يريدون لأحد "أن يُقتل أو يقاتل نيابة عنهم، ولا ينتظرون إذناً من أحد للقيام بعمل ما". كما عقّب الجنرال غانتس، رئيس تحالف أبيض ـ أزرق على كلام نتانياهو في هذا الشأن.

ولعل في كل ما تقدّم ما يُسهم في تفسير الدلالة السياسية العميقة للصراع على بقاء نتانياهو في سدة الحكم أو خروجه منها. فما لا يبدو على السطح، للوهلة الأولى، يتحرّك كالتيارات الجوفية في الأعماق.