مسجد في ألمانيا.(أرشيف)
مسجد في ألمانيا.(أرشيف)
الثلاثاء 17 سبتمبر 2019 / 19:56

هدية كاثوليك أوروبا للمسلمين

كل باب عبادة يتم غلقه، يتم أمامه فتح باب للشيطان

ثقتي في عقيدتي تجعلني أحترمُ عقائدَ الآخرين، بكل اطمئنان وهدوء ودون قلق. فقط حين أبدأُ في التشكك في عقيدتي، أتحوّلُ إلى التشكيك في عقائد الآخرين، حتى استرقَ من زعزعتهم ما يرتقُ ثوبَ شكي. فأنا مسلمةٌ واثقة في عقيدتي بقدر إيماني بحق كل إنسان في أن يختار عقيدته ويؤمن بها، وبقدر دفاعي عن حقّه في ذلك. وبقدر إيماني بقوله تعالى: "لكم دينُكم وليَ دين".

أؤمن تمامَ الإيمان، أنه كلّما زاد إيمانُ الإنسان بعقيدته، ازداد إيمانًا بحقّ الآخرين في الإيمان بعقائدهم المختلفة عن عقيدته. وكلّما زاد وعيُ الإنسان بإنسانيته، ازداد وعيُه بإنسانية الآخرين كذلك، وحقّهم الطبيعي في الاختلاف والتباين، مهما اختلف وتباين أولئك الآخرون. ذاك أن الاختلاف والتنوع والتباين ثراءٌ للإنسانية وسُنّة طيبة من سُنن هذا الكون، وهدية جميلة تُهديها الحياةُ إلى الجنس البشريّ.

أؤمن أنه كلّما تحضّر الإنسانُ وسما، ازداد احترامه للمختلفين عنه فكريًّا وعَقَديًّا. عكس كلّ ما سبق صحيحٌ في المطلق.
فقرُ الإيمان هو السبب الأوحد وراء الحروب الدينية والصراعات الطائفية والاقتتالات المذهبية. شكّ الإنسان في عقيدته، هو السبب المباشر في هجومه على العقائد الأخرى، أو حتى على أبناء عقيدته الخاصة، عن طريق المزايدة عليهم وزعم أنه أكثرُ منهم إيمانًا وتُقى، وأنهم أقلُّ منه تدينًّا أو أفقرُ إيمانًا. هذا لونٌ من محاولة ترميم اليقين (المتصدّع داخله)، عن طريق محاولة هدم يقين الآخرين (الموجود داخلهم).

قبل أعوام، أذاعت قناة "دوتش ڤيله"، الألمانية الخبر التالي: “كنيسة كاثوليكية ألمانية تُطلق حملة تبرعات للمساهمة في بناء مسجد بمدينة كولونيا بألمانيا". وتقولُ تفاصيلُ الخبر إن القسّ الألماني "فرانس مويرر" وقف أمام مذبح كنيسة سان تيودور، وقال للمُصليين إن الأموال التي سيجمعها الآن سوف تخصص لبناء مسجد جديد وكبير في المدينة، سيكون بمثابة هدية رمزية من الكاثوليك لأشقائهم المسلمين الذين يعيشون معهم في المدينة. واستجاب المصلّون الكاثوليك وبدأوا حملة تبرّعات موسّعة لبناء مسجد شاهق تعلو مئذنته نحو السماء لارتفاع ٥٥ مترًا، احترامًا لإيمان أشقائهم المسلمين الذين بلغ تعدادهم آنذاك ٦٥٠٠٠ مسلم يعيشون في تلك المدينة الوادعة على ضفاف نهر الراين، من إجمالي تعداد سكان مليون ألماني. لكن أمورًا حدثت وعطّلت تلك المبادرة الجميلة، ليست محلّ مقالي اليوم، فلا داع لذكرها حتى لا تتشتت فكرةُ المقال.

شخصيًّا، لم يُدهشني الخبر. أولاً لأنني أعرفُ آلية عمل عقلية الشخص المؤمن والمتحضر وغير المتشكك في عقيدته. وثانيًا لأن تلك المبادرة الطيبة لم تكن الأولى في تاريح ألمانيا. في القرن الثامن عشر، تحديدًا عام ١٧٧٤ بدأت أعمال تشييد مسجد "شفتسينجن" في حديقة قصر الدوق "كارل تيودور"، أمير منطقة بلاتينات الألمانية، بأمر مباشر من الأمير شخصيًّا. ومازال المسجدُ الأنيق قائمًا حتى الآن شاهدًا على تحضّر المتحضرين، يحجُّ إليه السائحون من مختلف بقاع الأرض.

ربما ينتظرُ المرءُ الدهشة المبهجة حين نسمع خبرًا يُفيد بحملة تبرّع تُطلقها مدارسُ وجامعاتٌ عربية وأئمةُ مساجدَ من أجل ترميم كاتدرائية أثرية مهدّمة، أو تشييد كنيسة في قرية نائية منسية في صعيد مصر، لا يوجد بها كنيسة، ويسكنها آلافُ المسيحيين؛ يضطرون للسفر عشرات الأميال كل أسبوع للصلاة. لكن شيئًا كهذا حدث بالفعل. أو لنقل إنها فكرةٌ طيبة أشرقت في سماء مصر، مثل ومضة خاطفة سرعان ما ذوت، ولم يكد يشعرُ بها إلا المتابعون. في سبتمبر (أيلول) ٢٠٠٩، أفتى الدكتور محمد سيد طنطاوى، شيخ الأزهر السابق العظيم، بجواز تبرّع المسلم من ماله الخاص لبناء كنيسة، مُعّللاً ذلك بأن الكنيسةَ دارٌ للعبادة لها قداستها واحترامها وطهارتها؛ ومؤكدّا على أن العقيدةَ علاقةٌ بين الإنسان وربه، وأن الشرع لا يمنع المسلمَ من أن يوصى ببناء كنيسة فهو حرٌّ في أمواله، ثم دعا اللهَ أن يرزق "المنحرفين" فكريًّا الهدى والمحبة. وأيَّد تلك الفتوى المتحضرة الداعيةُ العظيم د. محمود عاشور، عضو مجمع البحوث الإسلامية ووكيل الأزهر السابق، قائلاً: "إذا كانت الدورُ للعبادة والصلاة فينبغي أن نتبرع جميعًا لها سواء أكانت مسجدًا أم كنيسة، إذْ لا يجوز غلقُ دار عبادة في وجه إنسان، لأن ذلك سوف يؤدى بالتبعية إلى فتح باب المعصية وعدم الخوف من الله، فكل باب عبادة يتم غلقه، يتم أمامه فتح باب للشيطان". رحم اللهُ كلا الرجلين الصالحين. وتحية احترام لدولة الإمارات العربية المتحدة، والقائمين عليها من ذرية الشيخ زايد، الذين شيّدوا المساجد والكنائس والمعابد البوذية والهندوسية لأن إيمانهم بالإسلام علّمهم قولَه تعالى: “ولو شاء ربُّكَ لجعلَ الناسَ أمّةً واحدةً، ولا يزالون مختلفين.” هود ١١٨. صدق الله العظيم.

***