اليوميات للكاتب البولوني فيتولد غومبروفيتش (أرشيف)
اليوميات للكاتب البولوني فيتولد غومبروفيتش (أرشيف)
الإثنين 23 سبتمبر 2019 / 18:42

يوميات وسنوات

هذه الوطنية هي مدار ثقافة يرى فيتولد أنها نعرة، ومن الأفضل تجاوزها والبعد عنها

يوميات البولوني فيتولد غونمبروفيتش تنضم الى اليوميات الأشهر وهي قليلة.. مذكرات باسكال ومار اغوسطين غونمبروفيتش الذي كان قريباً جداً من جائزة نوبل، سبقه إليها من البولونيين شاعران إحداهما شاعرة هي شامبوريسكا.

كان غونمبروفيتش في المنفى البرازيلي بعد أن وصل النازيون إلى بلاده وضموها إلى ألمانيا. يوميات غونمبروفيتش هي فعلاً يوميات نشرها في ثلاثة مجلدات ترجمت دار الجمل جزءها الأول ونشرتها.

لن نستطيع أن نجد محوراً في كتاب يوميات إلا أن غونمبروفيتش الذي يجمع بين المفكر والروائي لا يفوته البتة أن يهتم بذات الشواغل، وأن يفسح لها وهو يتابعها يوماً بيوم.

ثم أن هذا المجلد الذي يدور بين عامي 1953 و1958 يبدو مستغرقاً في عصره وسجالات هذا العصر، كما يبدو لصيقاً بصاحبه وموقع هذا الصاحب من جملة مسائل لا ينفك يدور حولها بدون املال وبدون رتابة.

هناك بولونيا في أوائل شواغل فيتول، وهذا طبيعي فالكاتب في البرازيل، في المنفى، ورغم أن الكاتب يخص البرازيل بصفحات فيها الكثير من الحب، والإعجاب، الا أن انشغاله الأول هو ببولونيا والبولونيين في الخارج، وفي البرازيل خصوصاً، وأكثر حواراته هي مع البولونيين وخاصة بولونيي المنفى، وهذه حوارات لا تنقصها الحدة، وهي أقرب إلى نشر الاختلافات منها الى نشر التوافقات، فغونمبروفيتش، كما يظهر من كتابه، فريد وفرادته تبقيه قيد سجال مع زملائه، والغريب أن مجلداً كاملاً لبولوني في المنفى قلما يتصدى للنظام الشيوعي في بولونيا، وإذا عرض الكاتب لزملائه في بولونيا لا نجده يتكلم بضغينة، ولا نراه يعير أحداً بشيوعيته، بل لا نجده مضغناً على النظام الشيوعي رغم أنه يجاهر بأنه ضد الشيوعية.

إلا أننا نشعر أنه لا يزال في حوار موصول مع زملائه في بولونيا، وهو لا يعيّرهم ببقائهم تحت النظام الشيوعي. إنهم بالنسبة له زملاء ولا يزالون، رغم البعد زملاء تضمه إليهم قربى البلد، وقربى الثقافة والرعيل والبلد، فلا نشعر أن شيوعية النظام تفرق بينهم وبينه.

إنه ليس شيوعياً بل بعيد مسافات عن الشيوعية، يعرف نفسه بأنه وجودي، لكن وجوديته ألمانية فهي وجودية هايدغر، وليست أبداً وجودية سارتر وكامو، بل هو ينتقد الوجودية الفرنسية التي يراها مثالية ومتعالية على الواقع.

 إنها ليست وجوديته التي ترجع دائماً إلى الناس وإلى الواقع. يومياته مثل على ذلك، وكذلك رواياته فيما أن غريب كامو ودروب الحرية لسارتر، روايات منفصلة عن الواقع اليومي، روايات أفكار بحتة. على كل حال فإن مدار نقده لكامو وسارتر هو حول العلاقة بالغرب الأوروبي، فبما أن فيتولد من شرق أوروبا، واللحاق بالغرب الأوروبي واستيعابه هما من مشاكل يوميات. الأمر الذي يذكر من بعيد بإشكالنا، نحن أبناء الشرق الأوسط، مع الغرب الأوروبي، مُلهم ثقافتنا ومصدرها.

فيتولد غونمبروفيتش بولوني حتى ولو أقام في البرازيل. إنه مع ذلك ليس وحيداً. ففي البرازيل، على ما يبدو، جالية بولونية كبيرة، ولهذه الجالية حياتها وسجالاتها وتطلعها إلى بولونيا الأم، كما أن لها صحفها، ومؤسساتها، واختلافاتها، ولها أيضاً نظرتها إلى بولونيا الأم.

هذه النظرة التي هي أساس وطنية لا تروق لفيتولد الذي ينعاها على زملائه ويرى فيها وصمة حقيقية.

هذه الوطنية هي مدار ثقافة يرى فيتولد أنها نعرة، ومن الأفضل تجاوزها والبعد عنها الأمر الذي يذكر بوطنيتنا نحن التي لا تحول عن القضية المركزية فلسطين، وتبقى متعلقة بها.