الصحافي والكاتب الأمريكي توماس فريدمان (أرشيف)
الصحافي والكاتب الأمريكي توماس فريدمان (أرشيف)
الثلاثاء 24 سبتمبر 2019 / 21:01

عولمة فريدمان

يُعرف الصحافي الشهير توماس فريدمان العولمة، في كتابه "السيارة ليكساس وشجرة الزيتون" 1999، بأنها النظام الذي شغل مكان الحرب الباردة، كقوة محددة لمجريات أمور عالَم اليوم، وأنها ليست مجرد اختيار، بل حقيقة، انطلاقاً من أنه لا توجد سوى سوق عالمية واحدة.

إذا كانت العولمة ظاهرة كونية، فهي وصلتْ اليوم إلى حدودها القصوى، ومعضلتها الآن ليستْ في إخفاقها، بل في نجاحها، فهي تقتل نفسها بالنجاح

والطريقة الوحيدة التي تستطيع بها دولة تحقيق النمو بما يرضي مواطنيها، هي الانفتاح على أسواق الأسهم والسندات العالية، والسعي إلى شركات متعددة الجنسيات التي تستثمر في كل البلاد دون عوائق.

يرمز فريدمان للعولمة المنطلقة بالسيارة ليكسيس، وهي سيارة عصرية فاخرة، بينما تُمثّل شجرة الزيتون العالَم القديم، عالَم ما قبل العولمة.

يشرح فريدمان أن السيارة ليكسيس، وشجرة الزيتون، رمزان جيدان لحقبة ما بعد الحرب الباردة. نصف العالَم خرج من هذه الحرب عازماً على بناء سيارة ليكسيس، وكرس نفسه لتحديث، وتبسيط، وخصخصة اقتصادياته، ليتسنى له الازدهار في نظام العولمة، في حين أن النصف الآخر من العالَم، بل نصف بلد واحد أحياناً، أو حتى نصف شخص واحد أحياناً أخرى، لايزال مُحاصراً في الصراع على مَن يملك شجرة الزيتون هذه، أو تلك.

يقصد فريدمان المُبالغة الأدبية في جنون من يتصدى لشمولية العولمة، لدرجة أن شخصاً واحداً مُحتملاً فقط على المستوى الشخصي، لو حاول مُقاومة العولمة، سيكون مصيره المرض، سيكون فصامياً على طريقة رواية ستيفنسون "دكتور جيكل ومستر هايد"، وبالطبع الجانب العولمي العاقل الخير، سيكون دكتور جيكل، والجانب المرضي، القبيح، والشرير، سيكون مستر هايد. أما الدولة التي قد تتصدى للعولمة، فهي غير موجودة، أو هي من التطرف بحيث تبقى كحفرية تاريخية، معزولة عن العالَم، مثل كوريا الشمالية.

طلب فريدمان بسيط، وقاطع، وهو انضمام بلدان العالَم إلى سوق العولمة، حركة الانضمام الشمولي، يسميها فريدمان، القطيع الإلكتروني.

هذا الجيش المسلح يتكون من مجموعتين رئيسيتين، الأولى، ويُطلق عليها فريدمان، الماشية قصيرة القرون، وتضم مستثمرين متعدي الجنسية، ومجهولي الهوية، ومغامرين، ومضاربين، وسماسرة، وتجار عملات، وأسهم وسندات، ورجال بنوك، ومستشارين ماليين، ومحللين، وصحافيين يجلسون وراء أجهزة الإنترنت، مكونين ما يطلق عليه المجتمع الرقمي.

أما المجموعة الثانية، فهي الماشية طويلة القرون، وتتمثل في الشركات الكونية العملاقة التي تتحرك بين مختلف البلدان دخولاً وخروجاً مثل القطيع.

يؤكد فريدمان أنه لن يُكتب البقاء لبلد ما لم يلتحم بهذا القطيع، لكنه يُحذر من أن هذا القطيع بمثابة سلك كهربائي، قد يصعقك، ويتركك جثة هامدة.

يتحدث فريدمان أيضاً عن نظرية الأقواس، لمنع الصراعات، واستبعاد الحروب، والنظرية تقوم على فرضية أن البلدان التي دخلتها محلات ماكدونالدز، بعلامتها الشهيرة، وهي الأقواس الذهبيىة، لن تحدث بينها حروب، فإذا وصلت دولة ما إلى مستوى تنمية اقتصادية تؤدي إلى وجود طبقة متوسطة، تكفي لنجاح شبكة من محلات ماكدونالدز، فإنها تصبح إحدى دول ماكدونالدز، فالشعوب في هذه الدول لم تعد تحب خوض الحروب.

إلا أن فريدمان يقع في تناقض، فالماشية ذات القرون الطويلة والقصيرة معاً، لا تسمح في اندفاعها الهمجي، بتراكم طبقة متوسطة، تأكل بانتظام في محلات ماكدونالدز. ولهذا قد تعاني محلات ماكدونالدز في تلك البلاد من نقص الأرباح، وينتهي بها الحال فجأة إلى إفلاس مدوٍ مثل الذي حدث منذ أيام، لشركة الطيران العملاقة توماس كوك البريطانية.

 حقيقة الأمر أن تعليمات، أو تعاليم فريدمان، حدثت، وتحدث باطراد متزايد في العقدين الماضيين، بل وبالتزام حرفي دون أدنى عقوق، ومع هذا سحقتْ بلدان كثيرة تحت حوافر القطيع.

صدم توماس فريدمان في بريطانيا العظمى التي تمردت على العولمة، أو لم تستطع بعد الخروج النهائي من الاتحاد الأوروبي.

وفي مقال حديث لفريدمان، لم يجد وصفاً أو تحليلاً لحالة بريطانيا، سوى وصفها بالغباء والانتحار. خامس أقوى اقتصاد في العالم يتخلى عن العولمة، دون خطة مدروسة، أو دون خطة على الإطلاق.

هذا البلد مصمم على الانتحار الاقتصادي، لكنه غير قادر حتى على كيفية قتل نفسه. سفينة حمقى غير قادرة على الإبحار، تحمل بوصلة لا تشير إلى الشمال تماماً مثل التي يحملها قرصان بحر الكاريبي جاك سبارو المترنح.

استشهد فريدمان بحكاية ساخرة لوزيرة الشؤون الأوروبية ناتالي لويسو التي سمت قطتها "بريكست"، وقالت لويسو إن قطتها توقظها في الصباح الباكر، لأنها تريد الخروج، وعندما تفتح لها الباب، تقف القطة في منتصف المسافة، بتردد شرير، وزمجرة مكتومة، فهي لا تريد الخروج، وهي وأيضاً لا تريد البقاء في الداخل.

إذا كانت العولمة ظاهرة كونية، فإنها وصلت اليوم إلى حدودها القصوى، ومعضلتها الآن ليست في إخفاقها، بل في نجاحها، فهي تقتل نفسها بالنجاح، وتتجه نحو التدمير الذاتي، كما تفعل عولمة بريطانيا بنفسها.

إن المرحلة القادمة ستشهد تفتت نظام العولمة الشمولي، وهي مرحلة لن تكون سهلة وممتعة، بل سوداء ومظلمة، مُشبعة بالخوف على الأمن الشخصي، والشكوك في المستقبل، واستشعار بدائل، وأنظمة أقل شمولية.