السبت 28 سبتمبر 2019 / 19:10

تفريغ الذهن من الهموم والأفكار

يمكننا أن نتحدث مجازا عن "تفريغ الذهن" أو تصفيته وإراحته من أشياء كثيرة، أولها الهموم الذاتية وآخرها الشأن العام، وبينهما أمور شتى. من الناحية العملية فإنه لا يمكن لفرد أن يصفي ذهنه تماما، أو يفرغ ذاكرته، وقدرته الطبيعية على استدعاء أشياء ومواقف وصور كثيرة، اللهم إلا في حالات نادرة من التبتل، يمكن أن يقوم بها المتصوفة الكبار والرهبان، أو يدعون هم هذا، لكن هذه التصفية، التي تسمى لديهم "تخلية" إنما هي مقدمة لتجلية، والتي تعني هنا إملاء الذهن بالتفكير العميق في الله.

ويعبر الحكيم الهندي برمهنسا يوغانندا عن هذا قائلا: ""التأمل يستخدم تركيز الذهن في أسمى صوره. التركيز هو تحرير الانتباه من كل المشتتات، وحصره في فكرة معينة، ذات أهمية بالنسبة للشخص. أما التأمل فهو ذلك النوع من التركيز، بحيث يكون الفكر قد تحرر من القلق والتشويش، وتركز فعلا على الله".

لكن هناك أطروحات أكثر قربا لأفهام الأغلبية الكاسحة من البشر، الأولى سلوكية، والثانية منهجية. فعلماء النفس والعاملون على تربية الإرادة والاستذكار، يحدثوننا عن تفريغ الذهن كنوع من التأمل العميق، تمهيدا لاسترخاء، الجهاز العصبي اللإرادي، وهي مسألة ترويحية يحتاجها أي إنسان من حين إلى آخر، كي يستطيع أن يواجه صروف الحياة، ويواجه مشكلاته المتجددة، ولا يتركها تهزمه.

أما في الاستذكار فيرى البعض أنه يجب على المستذكر، أو طالب العلم، أن يفرغ ذهنه من الشواغل حتى يحفظ أو يستوعب ويفهم، أو يقوم بهذه العمليات الثلاث متتابعة أو متزامنة.

ويُضرب مثل مشهود على هذا بواقعة جرت للإمام الشافعي، الذي كان صاحب ذاكرة لاقطة، لكنه أتى يوم إلى أستاذه وكيع بن الجراح بذهن شارد، فلما استفسر منه عما يشغله، أسَّر إليه بأنه قد لمح كعب امرأة جميلة فاشتهاها، ويجاهد من أجل نسيان ما رآه، حتى يفرغ ذهنه للعلم، لكن لا يقدر. وقد استعاد الشافعي الموقف فيما بعد شعرا، فقال:
"شكوت إلى وكيع سوء حفظي .. فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نور .. ونور الله لا يؤتاه عاصي".

وهناك من فكر في طرق عملية لتصفية الذهن، أولها صرف الانتباه، عبر التركيز على شيء آخر، أو الانخراط في تمرين رياضية، أو الاستغراق في ممارسة هواية، أو قراءة كتاب ممتع. وثانيها هي اليقظة العقلية من خلال التأمل أو الانهماك في نشاط واحد ما تماما ولو كان بسيطا، وإهمال أية أفكار أخرى، وهذه تختلف عن التأمل التقليدي، الذي يحتاج إلى استرخاء كامل، ووقف جميع الأنشطة. وثالثها الكتابة، حيث يقوم الفرد بكتابة كل الأفكار التي تقلقه في ورقة، ثم يمزقها ويلقيها في سلة المهملات للتخلص من الهواجس والأفكار السيئة. وتوجد طرق أخرى مثل مراقبة الأفكار دون التأثر بها، ثم التغافل عنها، والتركيز على اللحظة الراهنة.

وللأديب المصري يوسف إدريس كتاب عنوانه "خلو البال" اعتبر فيه أن تصفية الذهن من الهموم حالة لازمة وضرورية لتفجر الإبداع، وإتقان العمل، ومواجهة متاعب الحياة، وهو إن كان قد رأى أن كل شعوب الأرض تعاني من عدم خلو البال، وأنه لا يوجد مجتمع بلا هموم وقلق ومشكلات، فإنه قد رأى أن قلق المصريين مختلف، وتتدخل فيه رواسب اجتماعية تاريخية استقرت في الرؤوس منذ غزو الهكسوس لمصر وحتى الوقت الراهن، وأنهم قلقون من الحاضر، بل ومن المستقبل، وهو أكثر خطورة، لاسيما في ظل الإخفاق في تشخص المشكلات بدقة، ثم وضع العلاج الناجع لها.

وفي التعامل مع النصوص، دينية كانت أو أدبية، هناك من يطلب أن يتم هذا دون حمولات وتصورات مسبقة، وهي لا تعني التخلي بالطبع عن معارف الفرد وخبراته إنما عدم السماح لها بالطغيان عليه وتوجيهه بالكلية وهو يقترب من النص ليفهمه على وجه دقيق عميق، وهنا يقول محمد جعفري: "ليس المراد من تفريغ الذهن أن نتجه إلى النص ونحن غير مسلحين بالأدوات والمباني والقبليات إنما تفريغ الذهن من الأحكام المسبقة التي تصوغ محتوى النص حسب رأي المفسر دون واسطة ذهنية.

وفي النصوص الأدبية يحذرنا بعض النقاد من القراءة المسبقة، التي قد تكون بيوجرافية، وقد تكون أيديولوجية، وذلك لأنها تؤدي إلى تصورات فاسدة. فالأولى تزيح أو تحيل إلى حياة الكاتب فتجعل منها إطارا للتفسير، وبذا فإن كل ما يكتبه يتم فهمه وفقا لسيرته الذاتية المفصلة، ما يؤدي إلى سقوط مثل هذه القراءة في فخ "التلصص". والثانية تجعل شارح النص أو مفسره أو ناقده يتعقب كل ما يرد فيه متوافقا أو متناقضا مع الخلفية الفكرية للناقد، أو للمؤلف، وتبني من هذا تصورا خاطئا، سواء بالانتصار للنص والإعلاء منه إن كان متوافقا، والحط من شأنه إن كان متناقضا.

ولا يتوقف تفريغ الذهن عن هذا الحد بل يمتد إلى ما هو أغرب من هذا بكثير. ففي كتابه "مت فارغا" يحدثنا تود هنري عن ضرورة أن يبذل كل فرد فينا جهدا مضنيا كي يخرج ما في رأسه من أفكار، ليفيد بها الحياة، بدلا من أن تذهب معه إلى قبره، وهي مسألة طالما باح بها أدباء ومفكرون وموسيقيون وعلماء، كانوا يسابقون الزمن في سبيل أن يخرجوا كل ما في رؤوسهم من حكايات وأفكار وألحان ونظريات، ويختبروا كل ما يشغلهم من افتراضات، ويجيبوا على ما يدور في أذهانهم من أسئلة، قبل رحيلهم الأبدي.

ويقول هنري أن فكرة الكتاب قد جاءته أثناء حضوره اجتماع عمل، سأل فيه المدير أحد الحاضرين:
ما هي أغنى أرض في العالم؟
فأجابه أحدهم قائلاً:
ـ بلاد الخليج الغنية بالنفط.
وقال آخر:
ـ بل البلاد التي تحوي مناجم الألماس في إفريقيا.
فعقب المدير قائلاً:
ـ بل هي المقبرة.
وراح يشرح جهة نظره، وسط دهشة الحاضرين، موضحا أن الناس يموتون منذ أول الخليقة، وهم يحملون في رؤوسهم أفكارا قيمة لم تر النور، ولم يستفد منها أحد سوى القبر، ولذا على كل فرد ألا يذهب إلى قبره وهو يحمل ما يستحق أن يقال أو يكتب أو يُفعل.