من مسيرات العودة في غزة.(أرشيف)
من مسيرات العودة في غزة.(أرشيف)
الأحد 29 سبتمبر 2019 / 20:43

عن البلاغة والصخب

فهل "لشعبنا" خيار حقيقي في موضوع المصالحة أو غيرها، أم الخيار للفصائل؟ وما علاقة "شطب أوسلو من تاريخنا" بمسيرات أسبوعية يُراد منها الضغط لتأمين وصول الأموال القطرية إلى حماس

 لقي شاب، في العشرين من العمر، مصرعه برصاص الجيش الإسرائيلي، وأصيب 68 آخرون، على الحد الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل في المظاهرات الأسبوعية لما يُعرف بمسيرات العودة وكسر الحصار. لم يُعمّر هذا الخبر أكثر من ساعات قليلة يوم الجمعة الماضي، وضاع في زحام الأحداث والأخبار، وضاعت معه، كما ضاعت من قبل، أسماء القتلى والجرحى.

فعلى مدار 76 أسبوعاً مضت، سقط آلاف الجرحى، وما يُقارب ثلاثمائة من الشهداء، وسرعان ما تحوّل هؤلاء، بكل ما تنطوي عليه حيواتهم القصيرة من تفاصيل كبيرة وصغيرة، إلى مجرّد أرقام: مَنْ سيذكر شاباً في العشرين من العمر يدعى ساهر عوض الله عثمان سقط يوم الجمعة الماضي سوى أفراد عائلته وأصدقائه؟

ومن سيسدد فواتير الثمن الاجتماعي والإنساني المروّع والباهظ الذي دفعه أطفال وشبّان في أوّل العمر والصبوات بُترت أطرافهم، وفقدوا القدرة على إعالة أنفسهم، أو تحقيق طموحاتهم في حياة لم يعد ينتظرهم منها سوى الشقاء؟

هذه وغيرها من الأسئلة الموجعة هي ما يحاول ضجيج البلاغة في خطاب حماس، التي تهيمن على قطاع غزة، وتشرف على تنظيم تلك المسيرات، حجبه عن الأنظار.

وإذا جاز القول إن الشعوب لا تتردد في دفع أثمان باهظة دفاعاً عن حريتها، وحقها في الاستقلال، وأن الفلسطينيين لن يتمكنوا من تحقيق أهدافهم الوطنية دون تضحيات كهذه، وأن أصحاب هذه التضحيات، كما أسماءهم، ستبقى محفورة في ضمير الشعب وذاكرته، فلن يجادل أحد في جدوى وجدية هذا الكلام.

ولكن المشكلة التي تحاول البلاغة الصاخبة حجبها عن الأنظار تتجلى في حقيقة أن تضحيات الفلسطينيين في مسيرات العودة وكسر الحصار، تصب في مصلحة حماس، وديمومة حكمها لغزة، أكثر من خدمتها لمصلحة الشعب.

ولا ضرورة، في الواقع، للاستطراد في تحليل الدلالة السياسية لمسيرات العودة، وعلاقتها بمحاولة فك الحصار عن حماس نفسها، وتحريرها من مآزق سياسية وأخلاقية ومالية كثيرة. كل ما في الأمر أن تحليل المضمون بلغة وأدوات النقد الأدبي يُسهم في تفسير الصخب البلاغي، ويُغني التحليل السياسي نفسه.

فلنفكر، مثلاً، في العناوين التي تختارها اللجنة المنظمة للمسيرات في أيام الجمعة. فمن الواضح، مثلاً، أن طول الفترة الزمنية للمسيرات قد استهلك قدراً كبيراً من "بنك الشعارات" الذي يسحب منه المُنظمون العناوين الرئيسة لهذه الجمعة أو تلك، وأن نوعاً من الإعياء البلاغي قد أصاب المخيّلة السياسية لهؤلاء فلم تعد قادرة على توليد غير البلاغة الفارغة، ولم تعد قادرة على تلافي ما تنطوي عليه من تناقضات.

فلنفكر، مثلاً، في الجمعة التي سقط فيها ساهر عوض الله عثمان، كان اسمها "جمعة انتفاضة الأقصى والأسرى"، وقد سبقتها جمعتان الأولى "فلنشطب أوسلو من تاريخنا" والثانية "جمعة مخيمات لبنان"، أما الجمعة القادمة فعنوانها "جمعة المصالحة خيار شعبنا". ولنلاحظ أن كل هذه العناوين من "العيار الثقيل" على صعيد البلاغة والخطاب، ولكنها مسكونة بتناقضات دلالية كثيرة. ولأنها كذلك، فإن فيها ما يعيد التذكير بلغة جورج أورويل المزدوجة في "1984".

فهل "لشعبنا" خيار حقيقي في موضوع المصالحة أو غيرها، أم الخيار للفصائل؟ وما علاقة "شطب أوسلو من تاريخنا" بمسيرات أسبوعية يُراد منها الضغط لتأمين وصول الأموال القطرية إلى حماس في غزة، والتفاوض على ممر خارجي آمن عن طريق البحر، وإنشاء محطة للطاقة، وتأمين شحنات البضائع والوقود؟ وما علاقة "الأقصى والأسرى" بكل ما ذكرنا؟

والمفارقة، في هذا الشأن، أن كل ما ذكرنا يصعب حجبه دون الكثير من الصخب البلاغي فاللجنة المنظمة لمسيرات تقول في بيان لها:
"نطمئن الجميع أن تحرير فلسطين هو شغلنا الشاغل والوحيد، ونقدّر عالياً كل من يساندنا في تحقيق هذا الهدف". ومع ذلك، في كلام ناطق باسم حماس، وأيضاً في خطاب من خطابات المسيرات، ما يجعل تصريحاً كهذا إشكالياً إلى حد بعيد. فالناطق يُحذّر "الاحتلال من الاستمرار في قتل المتظاهرين السلميين المشاركين في مسيرات العودة" ويدعو: "كل الأطراف للضغط عليه لوقف هذا الاستهداف".

وفي سياق كهذا يجوز التساؤل: كيف يستقيم التحرير "بوصفه الشغل الشاغل والوحيد" مع مطالبة "الأطراف" للضغط على العدو لوقف هذا الاستهداف؟ فما المطلوب من "الأطراف" بالضبط؟ المساعدة في تحرير فلسطين أم الضغط على العدو لوقف قتل المتظاهرين؟ وما المُتوقّع من العدو؟ الروح الرياضية أم قتل المتظاهرين؟

ولعل في هذا كله، وغيره، ما يبرر القول إن حقيقة هذا القدر من الصخب البلاغي، والفارغ، لن تتجلى إلا بوصفها محاولة لحجب شيء ما.